الدروس المستفادة من قمة هانوي بين “ترامب” و ” كيم جونغ أون”..
د. طارق ليساوي
تتجه أنظار العالم الأربعاء 27 فبراير إلى “هانوي” عاصمة فيتنام التي تستضيف القمة الثانية التي تجمع الرئيس الأميركي “دونالد ترام” وزعيم كوريا الشمالية “كيم جونغ أون”، بعد مرور نحو ثماني أشهر عن قمة “سنغافورة” و التي جمعت الزعيمين في يونيو الماضي ، ومنذ ذلك الحين تناسلت التساؤلات عن مكان و زمان القمة الموالية، ولم يكن أحد آنذاك يتوقع أن تكون فيتنام مكان القمة الموالية، فلماذا تم إختيار فيتنام تحديدا؟ وماهي الرسائل و الدلالات المستقاة من مكان القمة؟ وهل لتنامي النفوذ الصيني في بحر الصين دور في إختيار فيتنام ؟ و ماهي الدروس التي ينبغي للعالم العربي إستخلاصها من منهجية تعامل الإدارة الأمريكية مع كوريا الشمالية خاصة و الآسيويين خاصة ؟
أولا- الدلالات الرمزية لإختيار هانوي مكانا للقمة:
بنظرنا فإن اختيار فيتنام لاستضافة هذه القمة هو الحدث الأهم ذلك أن الأمر ليس بالإختيار الإعتباطي أو العشوائي فمكان القمة له دلالات رمزية بالغة الأهمية لجميع أطراف التفاوض المعنية بالملف النووي الكوري الشمالي، خاصة أمريكا و كوريا الشمالية وأيضا الصين و روسيا..
ففيتنام هذا البلد الآسيوي الذي لم نعد نسمع به إلا قليلا، لكن له حمولة تاريخية وغالبا ما يتم إستحضاره للتدليل على مواجهة الغطرسة والقوة الأمريكية ، فهذا البلد يذكرنا بحقبة الحرب الباردة و أيضا الهزيمة العسكرية التي لحقت بالولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي، هذه الهزيمة التاريخية التي لازالت تخيم بظلالها على الداخل الأمريكي ، و تشكل واحدة من التجارب السيئة الذكر بالنسبة للقوة الأمريكية و التي يتم الإحتجاج بها لتفادي التدخل العسكري الأمريكي المباشر في الخارج ..
لكن بالرغم من علاقات العداء والحرب، و التي تشبه إلى حد ما حالة العداء التي تجمع واشنطن وبيونغ يانغ اليوم… إلا أن فيتنام والولايات المتحدة تمكنتا من تجاوز هذه الحقبة السوداء، و تطبيع علاقاتهما خاصة بعد 1995، وتعزيز علاقاتهما الاقتصادية والسياسية والعسكرية بعد عقود من الشك وغياب الثقة. وهو ما يؤكد ان المصالحات و تبادل المصالح ممكن و متاح إذا كان السلام بين أنداد و ليس بين أسياد و عبيد، وانا خصومات الماضي مهما كانت مؤلمة يمكن تجاوزها و التغلب عليها…
وقد بدأت واشنطن خطوات تطبيع العلاقات مع هانوي منذ 1995 لتصبح فيتنام صديقة للولايات المتحدة بعدما كانت مركزا ورمزا للعداء لكل ما هو أميركي، كما أضحت هانوي وعموم فيتنام قبلة للسياح الأميركيين ومركزا لجذب رؤوس الأموال الأمريكية، وتجمع الدولتين اتفاقية تجارة حرة، وكذلك عضوية رابطة آسيان لدول المحيط الهادي .. و تبعا لذلك، تضاعفت صادرات فيتنام أكثر من 200 مرة بين 1986 و2016 لتصل 210 مليار دولار عام 2017، منها 80% مواد مصنعة أغلبها متجه للسوق الأمريكية و تجاوزت صادرات فيتنام الصناعية للولايات المتحدة، صادرات أندونيسيا …
كما تربط هانوي وواشنطن علاقات عسكرية تتطور باستمرار، وفي حدث تاريخي زارت حاملة الطائرات الأميركية “كارل فينسون” ميناء “دانانغ” في مارس/آذار 2018، وهي الحاملة التي كانت تنطلق منها طائرات عسكرية عام 1975 لضرب أهداف فيتنامية أثناء الحرب…
وكما هو معلوم فإن فيتنام دولة نظامها السياسي شيوعي مغلق يشبه -إلى حد ما- النظام الكوري الشمالي، إلا أنها في السنوات الأخيرة اتبعت سياسات انفتاح اقتصادي على غرار ما حدث في الصين بعد 1978، وهو ما جعل فيتنام واحدة من أسرع دول العالم في نسبة النمو الاقتصادي السنوي…و إستضافة قمة بهذا الحجم، تشكل فرصة لترويج للنموذج التنموي الفيتنامي…
أما بالنسبة لكوريا الشمالية، فتاريخيا جمعت “هانوي” و”بيونغ يانغ” علاقات قوية صلبة تمثلت تاريخيا في دعم كوريا الشمالية للفيتنام عسكريا ضد الولايات المتحدة، أما حاليا فكلا البلدين تخضع لنظام سياسي يقوم على الأيديولوجية الشيوعية ..غير أن فيتنام تعطي قصة حديثة العهد لتحول دولة من العزلة الى الإنفتاح و الإقلاع الإقتصادي عبر تبني سياسات مشجعة للتجارة الخارجية و لحركة رؤوس الأموال و بالتالي رفع مستوى الإزدهار و الرفاه، دون الإخلال بالنظام السياسي الشيوعي الصارم..وهذا جوهر الأطروحة أوالإستراتيجية التي يسعى “ترامب” تسويقها للنظام الكوري الشمالي، و إقناع الزعيم الكوري “كيم جونغ أون” بها إذا ما تخلى عن سلاحه النووي … خاصة و أن النظام الكوري الشمالي يتطلع لمحاكاة التجربة الصينية، على إعتبار أنه النموذج الأقرب لبنية المجتمع الكوري الشمالي ..
كما أنا الرسائل السياسية تمتد إلى الصين، فحرص الولايات المتحدة وفيتنام على جعل مكان القمة ب “هانوي” الغرض منه إستمالة الموقف الأمريكي لصالح فيتنام، و محاولة تقليص النفوذ الصيني في بحر الصين، لا سيما وأن هناك نزاع بين الصين و فيتنام حول الحقوق السيادية والحدود البحرية في بحر الصين الجنوبي، ولذلك، فإن تعزيز فيتنام لعلاقاتها مع أمريكا يمنحها المزيد من الثقة في مواجهة القوة الصينية…و يُمَكِن واشنطن من تحقيق مكاسب في نزاعها التجاري مع بكين …
ثانيا – الدروس التي ينبغي للعالم العربي إستخلاصها؛
تابع العالم كله على وسائل الإعلام قمة سنغافورة بين الرئيسين الأمريكي ” ترامب” والكوري الشمالي “كم جونغ أون”، ولاحظنا كيف تحول هذا الرجل الشرس الأرعن في تعامله مع حكام الخليج خاصة و العرب عامة، إلى حمل وديع يحترم أصول وقواعد اللياقة في مواجهة الزعيم الكوري الشمالي…
فجدية النظام الكوري و سعيه لإمتلاك أدوات الردع، فرضت على الرئيس الأمريكي وهو يعد للقاء السابق، حاول الاطلاع على بعض الإرشادات و التوجيهات التي تخصص لرجال الأعمال المقبلين على زيارة الشرق، وتحديدا آسيا الكونفوشيوسية، فقد فهم الرجل _ترامب_ أو “أفهموه” أن هؤلاء الناس يحترمون من يحترمهم ويقدرهم، و مستعدين للدخول في مواجهة إلى الموت ضد من يهين كرامتهم وعزتهم. فهذه الشعوب لازالت تعيش و تؤمن بقيم أخلاقية تقدس الشرف و الكرامة و تخشى العار و الإهانة…
و الجدير بالذكر، أن أدب ولياقة “ترامب” في تعامله مع كوريا الشمالية أو الصين و باقي البلدان الآسيوية، ليست نتاج لإحترامه و تبجيله لثقافة هؤلاء الزعماء، فزعماءنا العرب تمتلك شعوبهم نفس القيم و الأعراف، غير أن المقارنة بينهم و بين زعماء أسيا غير جائزة، فالزعماء العرب باعوا أوطانهم وخانوا دينهم، وتنازلوا على عرضهم ، وتواطؤا على بني جلدتهم في السر و العلن، بخلاف الزعيم الكوري الذي سعى منذ وصوله للسلطة على تسريع وثيرة التجارب العسكرية، ونجح في وقت قياسي في تحقيق الحماية لشعبه، ودخل في المفاوضات من موقع قوة، فالزعيم الكوري الشمالي يملك من مقومات القوة الصلبة ما يجعله يجبر الولايات المتحدة على دفع ضريبة الدم في عقر دارها.. ولذلك، تم التعامل معه بأدب ودبلوماسية، و لم يتورع ترامب في القبول بقمة ثانية، وهو الذي سبق له أن صرح بأنه لن يحضر لقمة أخرى..
إنه لقاء الأنداد بامتياز، وليس لقاء لإملاء شروط الإذعان و الاستسلام..فما حققته كوريا الشمالية إلى حدود الساعة، هو خير مما حققته الولايات المتحدة، فهنيئا للزعيم والشعب الكوري بهذا النصر الدبلوماسي ، وهو نصر مستحق فالبلاد تحت الحصار منذ نصف قرن ونيف، وتعاني ضائقة مالية.. ومع ذلك، نجحت في تحقيق ما عجزت البلدان العربية على تحقيقه رغم ثرواتها وقدراتها، غير أن حكام العالم العربي أكثروا الكلام و نسوا العمل، فصدق فيهم قول الشاعر “وما نيل المطالب بالتمني * ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”..
فإذا كان حكامنا لايحترمون أنفسهم، فكيف نطلب من هذا الرجل إحترامهم، فحكامنا خانوا شعوبهم و دمروا كل مقومات القوة المتاحة بين أيديهم، ومن أهمها الوحدة بين الشعوب، فشغلهم الشاغل هو التفرقة بين الشعوب، عبر إقامة أنظمة مستبدة فاشلة سياسيا و عسكريا و تنمويا، وعبر تعميق فجوة الخلاف بين بلدان الجوار وبين باقي البلاد العربية و الإسلامية…
ترامب رجل عنصري يكره الإسلام و المسلمين، لكنه في نفس الوقت رجل يخدم مصلحة بلاده و يحترم الأقوياء..و حكامنا بسياساتهم جعلوا المنطقة رخوة وغير مؤهلة للمواجهة، لكن عزائنا هو المقاومة التي تستوطن أفئدة الشعوب شيبا و شبابا، رجالا ونساءا، فمهما استسلم الحكام و خانوا و فرطوا في العرض و الأرض ، فإن الشعوب لهم بالمرصاد.. وما نراه اليوم من حراك شعبي في السودان والجزائر مؤشر على أن الشعوب العربية تريد استرداد إرادتها و حريتها و هويتها، و إستدراك ما دشنته ثورات الربيع العربي في 2011 ، وخلال هذه الموجة الجديدة من الحراك الشعبي، لن يستطيع حكام الخليج الوقوف في وجه إرادة الشعوب، لأن هذه الأنظمة كشفت عن سوءاتها ونفاقها، و إنكشفت خياناتها لشعوبها أولا و للأمة ثانيا، لذلك فإن مصيرها إلى زوال ..
وإلى ذلك، الحين الذي اقتربت ساعته، على الشعوب ان تتحلى بقيم الإسلام و الروح الوطنية و التسامح مع شركاء الوطن والدين، و الانفتاح على باقي شعوب الأمة العربية و الإسلامية، فمستقبلنا واحد وتحدياتنا مشتركة، والتهديد القادم سيشمل الجميع، وما قمة ” وارسو” و “هانوي” و محاولة طي الملف النووي الكوري الشمالي، إلا بداية الاستعداد لهجمة جديدة على العالم العربي و الإسلامي تحت ذريعة الحد من النفوذ الإيراني بالشرق الأوسط…
نتمنى أن يدرك العرب أن العداء لإيران في هذه المرحلة تحديدا، و الإصطفاف إلى الجانب الأمريكي و الصهيوني، لن يحقق السلام و الاستقرار و المصالحة لشعوب الإقليم، و إنما سيجلب مزيدا من الدم والفقر والتهجير..حماية إيران ضد الغزو الأمريكي هو حماية لأنفسنا…
فمهما يكن من خلاف فإيران تظل بلدا مسلما وجارا ، والخلافات السياسية و المذهبية، تحل بالحوار و التفاوض من قبل العقلاء لا السفهاء، والشعوب تعرف جيدا العاقل من الجاهل، و تدرك من يخدم مصالحها ممن يعاديها… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون..
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/02/28