الإمبراطورية المتحدرة تكشّر عن أنيابها
وليد شرارة
هي المرة الأولى التي تعترف فيها الولايات المتحدة بالتورط في محاولة انقلابية عند وقوعها. الانقلابات العسكرية كانت الوسيلة المفضلة لواشنطن، منذ تحولها قوة دولية بعد الحرب العالمية الثانية، لإسقاط الأنظمة الوطنية في بلدان الجنوب وبسط سيطرتها عليها. ولكن، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت في تلك الحقبة في أوج قوتها، لم يسبق لمسؤول أميركي أن فعل ما قام به جون بولتون مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، ووزير الخارجية مايك بومبيو، إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في فنزويلا في 30 نيسان الماضي. لقد أقر الرجلان بمشاركة إدارتهما المباشرة في المحاولة الفاشلة. لم يتردد بولتون في توجيه تغريدة لثلاثة مسؤولين فنزويليين: وزير الدفاع فلاديمير بادرينو، رئيس المحكمة العليا مايكل مورينو وقائد الحرس الجمهوري إيفان رافاييل هرنانديز دالا، متهماً إياهم بخيانة تعهداتهم التي قدموها للمعارضة الفنزويلية بإطاحة الرئيس نيكولاس مادورو «لتسهيل انتقال سياسي ديموقراطي». وهو أضاف إن الصفقة بين الطرفين تضمنت رفع العقوبات الأميركية عن المسؤولين الثلاثة مقابل التزامهم بها. أما مايك بومبيو، فقد زعم أن الولايات المتحدة شاركت في المفاوضات التي سبقت الصفقة المذكورة، وأن مسؤولَين رئيسيين في حكومة مادورو أبلغا إدارته استعدادهما للانشقاق في الأسابيع الماضية. وبمعزل عن صحة مزاعم الرجلين، أو عن كونها محاولة لزرع الشقاق في معسكر الرئيس الفنزويلي بعد فشل الانقلاب، فإنها تضمنت بعدين مهمّين ومترابطين بالنسبة الى مآلات المواجهة في فنزويلا: الأول هو الكشف عن مدى التصميم الأميركي على إطاحة الحكومة الشرعية في البلاد، مع وضع خيار التدخل العسكري المباشر على الطاولة، والثاني هو المزيد من تدويل الأزمة، عبر اتهام روسيا وكوبا بالمسؤولية عن إجهاض الانقلاب. الجموح الأميركي لاستعادة السيطرة على ما اعتبرته يوماً حديقتها الخلفية استولد أزمة محلية ــــ إقليمية ــــ دولية في قلبها، فوق أكبر مخزون للنفط الخام في العالم.
في جدوى «التكشير عن الأنياب»
ليس سراً أن فرض سيطرة الولايات المتحدة مجدداً على بلدان وسط وجنوب القارة الأميركية هو بين الأولويات المستجدة لإدارة ترامب، وأن إسقاط الحكم الوطني في فنزويلا، الذي تحوّل منذ أيام الرئيس الراحل هوغو تشافيز إلى ناطق رسمي باسم التوجه الاستقلالي الجذري، هو أحد شروطها الرئيسة. الثورة المضادة التي تشهدها فنزويلا منذ بداية هذا العام تتم بإشراف أميركي، وقائدها، خوان غوايدو، وأهم رجالاته، هم فخر صناعة «مركز كانفاس»، وريث منظمة «أوتبور» الصربية، إحدى أدوات التدخل الأميركي المفضلة تحت شعار تصدير الديموقراطية، بحسب ما كشفه الصحافي ماكس بلومنتال، في كتابه الصادر هذا العام «إدارة التوحش». المحاولة الانقلابية التي وقعت يوم 30 نيسان أتت بعد عملية تمهيد دامت عدة أشهر لتكريس الاعتراف بغوايدو كرئيس «شرعي» للبلاد من قِبَل أكثر من 50 دولة بدفع من الإدارة الأميركية. ثورة مضادة ملونة في الداخل، وعملية بناء لجبهة سياسية ــــ دبلوماسية معادية في الخارج، كان من المفترض أن يفضيا، بنظر مهندسي انقلابات الثمانينيات في أميركا الوسطى واللاتينية، كإليوت آبرامز وجون بولتون، إلى كسب ولاء قطاع وازن من الجيش لإزاحة مادورو.
يعتقد البعض، على غرار أوري فريدمان في «الأتلانتيك» أن أخطاء تكتيكية ساهمت في إفشال هذا المخطط. يقول فريدمان إن سفير كولومبيا في واشنطن، فرانسيسكو سانتوس، المتورط بدوره في المؤامرة على فنزويلا، أسرّ له أن «العسكريين الذين يدعمون الرئيس الفنزويلي هم كأحجار الشطرنج. إذا انشقوا عن النظام، نخسرهم. هم يعملون بفعالية أكبر من داخله». قد يكون من الصحيح أن انشقاق المئات من العسكريين والضباط عن الجيش، وانضمامهم إلى صفوف المعارضة، ولجوء عدد منهم إلى كولومبيا، جميعها عوامل ساعدت على إجهاض المحاولة الانقلابية، لكنها ليست العوامل الأساسية. العامل الرئيسي هو التفاف القطاع الأعظم من الجيش ومن الشعب حول النظام. كل الخطوات التصعيدية والعقوبات الاقتصادية والمالية والتهويل بالتدخل العسكري لم تُجدِ نفعاً. لقد فقدت الولايات المتحدة هيبتها التي كانت الركيزة الأساسية لهيمنتها العالمية في العقود السابقة. فشل جديد في فنزويلا سيفضي إلى تآكل أكبر للهيبة والهيمنة معاً. هذا ما يفسر هيجان صناع قرارها الحالي وحديثهم المتواتر عن تدخل عسكري وشيك.
يعتقد البعض أن إلغاء وزير الدفاع بالإنابة، باتريك شانهان، زيارته لأوروبا للتشاور مع مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية هو دليل على جدية هذا الخيار. الأسئلة التي تطرح نفسها بالضرورة هي حول شكل مثل هذا التدخل ومداه.
هل سيكون تدخلاً أميركياً حصرياً؟ أو سيتم بالتعاون مع دول إقليمية ككولومبيا مثلاً؟ يستبعد المراقبون المطلعون على أحوال أميركا اللاتينية تورط الجيش البرازيلي في حرب كهذه، ما يحصر دور الشريك الإقليمي لواشنطن بكولومبيا وحدها. هل سيترجم هذا التدخل الأميركي بعمليات قصف جوي أو بعمليات برية أيضاً؟ ما هي تداعيات مشاركة كولومبيا في عدوان أميركي ضد فنزويلا على أوضاعها الداخلية، وخاصة على موقف الفصائل الثورية المسلحة الكولومبية، «الفارك»، التي أوقفت عملها المسلح ضد النظام الكولومبي، والتي لديها علاقات وطيدة مع كراكاس؟ والأهم، ماذا ستفعل روسيا، التي بات لديها وجود عسكري في فنزويلا، والصين التي لديها مصالح واستثمارات ضخمة فيها تقدر بـ 70 مليار دولار؟ من المفترض أن صناع القرار في واشنطن سيأخذون في الاعتبار جميع هذه الأسئلة عند تقديرهم الموقف، وخاصة أنهم يعلمون بمعارضة غالبية من الأميركيين، بمن فيهم أوساط واسعة من مؤيدي ترامب، لأي حرب عالية الأكلاف بشرياً ومادياً.
صراع دولي بالوكالة؟
رأى جون بولتون في مقابلة إذاعية أن الرئيس ترامب «ليس مستعداً للقبول بقيام حكومة خارجية بوضع يدها على فنزويلا التي تمتلك أكبر مخزون للنفط الخام في العالم». الحكومة الخارجية المشار إليها بالطبع هي روسيا، المتهمة إلى جانب كوبا بإجهاض الانقلاب. المعلقون الأميركيون عادوا إلى معزوفة الحرب بالوكالة بين واشنطن وموسكو. عضو مجلس الأمن القومي السابق في بدايات إدارة ترامب، فرناندو كوتز، أشار إلى أن «الروس كشفوا خداعنا. عندما يرسلون قوات إلى جورجيا وأوكرانيا وسوريا، ما الذي فعلناه حيال ذلك؟ لقد عقّد هذا الأمر حساباتنا ووضعهم في موقع الطرف الأقوى». المؤكد هو أن المكالمة الهاتفية التي تحولت سجالاً، إثر فشل الانقلاب، بين وزيري الخارجية مايك بومبيو وسيرغي لافروف، الأول متهماً روسيا بزعزعة الاستقرار والثاني واصفاً السلوك الأميركي بالانتهاك الأوقح للقانون الدولي، أظهرت قوة الدعم الروسي لفنزويلا. المواجهة بين الطرفين جيواستراتيجية بامتياز. لقد فتحت محاولة واشنطن إسقاط النظام في فنزويلا نافذة فرص أمام روسيا، العائدة بقوة إلى الساحة الدولية، للتموضع في قلب القارة الأميركية. لا شك في أن تصريحات المسؤولين الأميركيين المستنكرة للتدخل الروسي في نصف «قارتنا» الغربي تثير سخرية نظرائهم الروس الذين ملّوا في العقدين الماضيين مطالبة الولايات المتحدة بالتوقف عن سعيهم لمحاصرة روسيا، من خلال جوارها، بالقواعد العسكرية والبطاريات المضادة للصواريخ، من دون نتيجة تذكر. هذا القرار الروسي بالتموضع في فنزويلا، والموقف الصيني الداعم لها بقوة، مؤشران لا يدعان مجالاً للشك في اضمحلال الهيبة الأميركية، وفي أن التكشير عن أنياب الإمبراطورية قد فقد قدرته الرادعة.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/05/03