هل يعيدُ صمود إيران وسورية الاحترام للقانون الدولي؟
د. وفيق إبراهيم
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 أصبح القانون الدولي عجينة، يمنحها الأميركيّون الشكل المتناسب مع مصالحهم، فكانوا ينفخونها تارة لإثارة الرعب ويُمسّدونها تارة أخرى إلى درجة الاختفاء.
إنه منطق التحكم بكامل القوة في العالم يستعملونها في حروب لتوسيع هيمنتهم من دون استئذان أحد أو استشارة آخرين.
هذه الوضعيّة من التحكم الاستبداديّ المطلق سمح للأميركيين بأسر القانون الدولي وتحويله أداة لتغطية استعمارهم لقسم كبير من العالم، متيحاً لهم اختلاق مصطلح «مجتمع دولي» يضمّ الدول المنتمية إلى نفوذهم ويستعملونها في مرحلة استعصاء يتعرّضون لها في مجلس الأمن الدولي، فتبيح لهم حق إعلان الحرب وفرض السلم الأميركي بالإكراه الحربي أو الاستسلام بتغطية في «مجتمع دولي وهمي».
هذه هي الولايات المتحدة الأميركية التي تتحكم بالعلاقات الدولية والإقليمية والداخلية للدول بشكل كامل منذ 1985 وكانت تشاورُ قبل هذه المرحلة الاتحاد السوفياتي في عصر قوته بين الستينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي لتقسيم مراكز النفوذ بينهما.
كيف ينتهك الأميركيون القانون الدولي؟
اغتنم الأميركيون سقوط منافسهم الدولي الاتحاد السوفياتي منظمين مشروعاً لإعادة تأمين نفوذ عام ودولي لهم لا منافس له، مباشرين بتنظيف أميركا الجنوبية من معظم الدول المتمرّدة عليهم باستثناء كوبا وفنزويلا بأساليب استخباريّة وعسكرية على قاعدة جذب الناس بأوهام اقتصادية.
فاستولوا أيضاً على 95 في المئة من أوروبا الشرقية والقوقاز، بما وفّر لهم حصاراً كاملاً على روسيا الوريثة «الجغرافية» للسوفيات. حتى أنهم لم يوفروا روسيا نفسها مسيطرين على رئيسها السابق يلتسين الذي ولِفرطِ إدمانه على السكر لم يعرف حتى اليوم أنه لم يعُد رئيساً.
وبما أن الشرق الأوسط هو الضرع النفطي والغازي الأساسي للعالم ويمتلك السلع الغربية من الإبرة وحتى الصاروخ، فكان ضرورياً أن يؤسس الأميركيون مشروعاً يربطه بهم إلى قرون عدة – أي حتى نضوب النفط والغاز وربما حرارة الشمس المولدة للطاقة بدورها.
فلم يكَد الجيش الأميركي يحتلّ أفغانستان في 2001 لأسباب لا علاقة لدولة افغانستان وشعبها بها، ومن دون إذن دولي أيضاً ولأسباب اعترف الأميركيون فيما بعد أنها ليست صحيحة.
للإيضاح فإن أسباب اجتياحهم لأفغانستان تعود إلى اتهامهم منظمة القاعدة بأنها وراء «هجمات نيويورك» مقرّين أن الوهابية السعودية هي ايديولوجيا القاعدة وأن المخابرات السعودية هي مَن يدرّبها ويموّلها ويرسم سياساتها، وينطبق الأمر على العراق الذي اعترف الأميركيون بعد مقتل مئات آلاف من ابنائه أن لا أسلحة دمار شامل لديه كما كانوا يتهمونه، مواصلين احتلاله حتى اليوم ومتسبّبين بقتل مئات آلاف من مدنييه.
وسرعان ما تدفقت الاجتياحات والتدخلات العسكرية الأميركية مع دعم مفتوح منهم للإرهاب بما شمل سورية والصومال واليمن ومصر والسودان وليبيا وتونس وإيران، غير موفرين حتى حليفتهم تركيا، فبدوا وكأنّهم على سباق مع الزمن، يريدون إعادة بناء العالم قبل تشكّل قوى عالمية جديدة فيه تشاركهم في معدلات هيمنتهم.
لذلك فإن كامل حركتهم العسكرية الدموية منذ 1990 لا ترتبط بأي موافقات أممية، وتعتبر أن إمساكها بموقع القوة العسكرية الأساسية في العالم هو قانونها الدولي الذي يبيح لها فعل ما يعزّز مصالحها وهيمنتها.
لكن سورية عصت على هذه الهيمنة الأميركية الدموية واستبسلت في ردع أكبر تجمع للمنظمات الإرهابية في التاريخ، تدعمها الدول الحدودية من تركيا وحدود لبنان الشمالي الذي كان محتلاً من الإرهاب و»إسرائيل» في فلسطين المحتلة والأردن الذي كانت مخابراته تدير حركة الإرهاب في جنوب سورية ومنطقة الأنبار ونينوى وكردستان في العراق، ويعرف العالم بأسره أن الأميركيين هم الذين أمروا هذه الدول الحدوديّة بفتح طرقها نحو سورية بمشاركة أساسيّة تمويلاً وتسليحاً وإعلاماً من الخليج.
بيد أن الدولة السورية جابهت بصلابة هذا التخبط الأميركي الخليجي الإقليمي فاستعملت وبإعجاز إمكاناتها العسكرية والتأييد الشعبي لها لمنع إسقاط الدولة والمجتمع. واتجهت بعد عامين متتاليين من قتال ضروس إلى عقد تحالفات مع حزب الله وإيران وتلاها حلف كبير مع روسيا العائدة بموجبها إلى مركز التفاعلات في العالم.
فبدا هذا الحلف مُجسّداً لمجابهة الهيمنة الأميركية العالمية «ولأسرها القانون الدولي واحتقارها» له والدليل أن الدولة السورية، عضو في منظمة الأمم المتحدة أي أنها تجسد الشرعية السورية وتتصدّى لإرهاب كوني تدينه كامل المنظمات الدولية، فتجد نفسها في مجابهة مع إرهاب وقوات أميركية وأوروبية وتركية وإسرائيلية، فأين هو هذا القانون الدولي؟ ألم يتكرّر انتهاكه من قبل الأميركيين وحلفائهم في الخليج والإقليم؟
الميدان السوري إذاً هو الذي يعيد الهيبة للقانون الدولي بتصدّيه للمشروع الأميركي وإلحاق هزيمة تدريجية به وإعادة الاحترام إلى العلاقات الدولية.
على مستوى إيران، فالمعروف أن الحروب تندلع عادة لأسباب استراتيجية واقتصادية وبما أنها تجمع بين الشرطين، فتتعرضُ الآن لأعنف حرب أميركية إقليمية عليها، ليس لها قوة إسناد من القانون الدولي وأي مبرر فعلي بما يعني أنها اعتداء أميركي خالص على إيران والقانون الدولي معاً، وإلا كيف نُفسّر الحصار الأميركي على إيران واستعمال التأثير العالمي الأميركي لمنع الدول من استيراد الإنتاج الإيراني النفطي والبتروكيماوي وحظر التعامل المصرفي والمالي معها إلى درجة منع أي نوع من التبادلات، إنها إذاً قوة الردع الإيرانية داخلياً وعلى مستوى تحالفاتها الإقليميّة، لكنهم استعملوا حلفاءهم في الخليج وأساطيلهم و»إسرائيل» لتنفيذ هذا الحصار الحربي.
بيد أن الصمود الإيراني المستمر منذ عقود عدة، يصيب الأميركيون وتحالفاتهم بجنون من المعجزة الإيرانية بالصمود المستمر، فتصُّبُ هذه القوة الإيرانية في خدمة إحياء القانون الدولي واعتباره وسيلة وحيدة لتنظيم العلاقات الدولية.
فهل يعني أن هذا القانون لم يعُد عجينة في يد الكاوبوي الأميركي؟
إنه يتجه إلى ذلك، بفعل الصمودين السوري والإيراني، منتظراً اكتمال الحلف الصيني الروسي وآنفاً الهندي، لتحقيق مناعة قانونية يتحرّر بواسطتها العالم من قوة العضلات والإبادة إلى مناعة العقل المدعومة بالصمود الكونيّ على شاكلة سورية وإيران.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/17