ليس ملفاً شعبوياً.. التطبيع مع العملاء في لبنان غير وارد
روزانا رمّال
فوجئ اللبنانيون بمسار تحقيق مباغت بدأت الأخبار تتوالى بشأنه ولا تزال في ما يتعلق بتوقيف الامن العام اللبناني لعميل اسرائيلي سابق هو عامر الياس فاخوري المعروف بـ «جزار الخيام»، لكن المفاجأة الاكبر كانت ان اللبنانيين ايقنوا حقيقة قانونية مؤلمة قوامها امكانية عودة عملاء من هذا الطراز وبشكل قانوني عملاً بما يعرف بـ «مرور الزمن « الذي يقتضي سقوط الأحكام تلقائياً بعد مرور كل هذه السنوات. كيف بالحال قرابة العشرين سنة وبهذا وقعت الصدمة واستحضرت مظلومية مئات العائلات الجنوبية وأعيد فتح جرح لم تفلح السنوات بجعله مجرد محطة من أرشيف التاريخ المؤلم الذي عاشه الجنوب.
التطبيع مع فكرة العفو عما مضى والتسامح مع العملاء ولو كانت قانونية بمرور الزمن تبين أنها جمر كاد يحرق المشهد ويحرفه نحو مسار من نوع آخر. وبجولة قامت بها «البناء» في المنطقة الحدودية في مناطق الخيام والعديسة وكفركلا والطيبة.. ها هم أهل الجنوب لا يعرفون سيرة منذ 48 ساعة غير هذا العميل وملابسات عودته، الاسئلة كثيرة وكبيرة تلك التي تراودهم حياله: «كيف دخل الى المطار؟.. يا لها من ثقة يتمتع بها كي يعود!!». البعض يقول لولا أنه مطمئن ان أيادي هنا ستسهل له العودة من تلك الرؤوس الكبيرة ما كان ليأتي بتاتاً. من رافق عامر فاخوري في اروقة المطار؟ لماذا يرغب البعض «بجرحنا» نحن الجنوبيين الذين جلبنا الكرامة لهذا البلد؟.. يتحدث احد اهالي منطقة العديسة الحدودية عن معاناة ما بعدها معاناة تلك التي عاشها المعتقلون من بلدته في معتقل الخيام وعن دور منحط أنيط به الفاخوري من تعذيب وتشويه وتحقير للنفس وللمعتقل، وكـأنه ليس ابن جلدته، وباختصار يعد اهل الجنوب بالانتقام من «الدولة». وهذا اتهام خطير ومن كل من يرغب بالانتقاص من تضحياتهم.
المشكلة هنا هي اتهام «الدولة» أو أحد أجهزتها.. الأسئلة تتراوح بين التساؤل والاتهام، فما الذي يحمس ضباطاً كباراً مثلا في التورط بملف كهذا ولصالح مَن؟
على اي حال من الاحوال وبالعودة للقضية الاساس فان النظر بتسوية اوضاع العملاء وهو مطلب أخذه على عاتقه اكثر من حزب او تيار سياسي «مسيحي» تحديداً، ومعهم بكركي، في إيجاد مخارج وحلول لعائلات ربما تكون قد تعرّضت لظروف ضاغطة وقاسية ومن تعاملوا ايضاً عايشوها ينظر اليه البعض من باب إنساني حتى ان حزب الله نفسه دعا بدوره الى تسوية أوضاعهم. وبالمقارنة ايضاً مع ما يجري بالجوار السوري وعلى مدى سنوات طويلة انشق فيها البعض عن الجيش السوري والبعض الآخر تعامل مع عناصر وفصائل مسلحة ومتطرفة ومنهم من انضم لما يسمى الجيش الحر وتوابعه. كل هذا لم يمنع السلطات السورية ايضا بالاعلان عن اعفاءات في حالات محددة من اجل التشجيع على العودة لحضن الوطن وسلطاته.
كل هذا طبيعي في حروب تحيط بشارع مهتزّ وبنفوس ضعيفة امام الاحتلال وامام ضغوط طاولت عائلاتهم وحياتهم وضيق حال غير مسبوق، الا انه وبحالة العميل فاخوري فقد كان إحدى ركائز الاحتلال في المنطقة الحدودية بسلطته داخل المعتقل. فقد شارك بالتعذيب من اجل الحصول على معلومات من المعتقلين اللبنانيين خدمة للعدو تجسساً على المقاومة. هذه الرموز لا تُنسى عادة في اغلب الحروب وبين مقاومة فرنسية أعدمت العملاء وبين مقاومة تسعى لتسوية أوضاع تحضر الانسانية التي استغلها البعض في الداخل وتساهل بدون ان يعرف او يتوقع ان القضية كادت تشيع الفوضى بالشارع بمعزل عن أي أمر او إيعاز من قيادات المقاومة. مثلاً فالتحرك الشعبي العفوي كان إنذاراً للمقاومة نفسها من مغبة التساهل مع ملف كهذا أياً كان المتورط اكان حليفاً او صديقاً او خصماً. ومن هنا يجزم مصدر موثوق لـ»البناء» ان «حزب الله من اللحظة الاولى لوقوع الفاخوري بيد الامن العام اللبناني كثف اتصالاته طيلة نهار أمس وليلته للتوصل الى ادق معلومة تؤدي الى كشف ملابسات مخطط كما بدا لتنظيف سجلات اكثر من ستين عميلاً كما أن الحزب تابع التحقيقات كمعني اول بالقضية. وهو بصدد المتابعة حتى آخر لحظة لمنع اي نوع من محاولة تمييع هذا الملف وليصبح ما جرى عبرة لمن يعتبر من المعنيين».
المعلومات تشير الى ان العميل المتسلّح بالجنسية الأميركية يبدو انه حصل ايضاً على رعاية من الجهة نفسها تكفلت بدورها التواصل مع المعنيين امنياً، لكن السؤال لماذا؟ وهل هذا الملف واحد من الملفات لإثارة الضغط وإيقاع الشرخ بين حزب الله وبعض حلفائه الذين تم توجيه أصابع الاتهام لهم فورا وجزافاً كالتيار الوطني الحر؟ والعهد بشكل او بآخر؟
الفتنة أيضاً نفسها تتعلق بالشارع المسيحي الأكثر مطالبة بتصحيح هذا المسار والعفو العام.
وهذا يعني ايضا الضغط على حزب الله وتحويل الأمر من مساره نحو مسار طائفي بحت من دون تجاهل نقطة أساسية وهي الشعبوية التي تحوز هذا الملف مسيحياً، خصوصاً لجهات تريد جعله ملفاً انتخابياً جذاباً ومربحاً.
الشارع اللبناني والجنوبي تحديداً أيقظ كل من أراد استسهال الأمر واعلن رفضه الكامل أي مساومة حزبية او سياسية بأي شكل من الأشكال، معلناً ان التطبيع مع العملاء لن يكون وتحت اي ظرف ملفاً سياسياً قابلاً للتجاذب وما جرى مع الفاخوري يشكل سداً منيعاً بوجه اي محاولة لإثارة الفتن. وقد تلقى حزب الله الرسالة بشكل مباشر والشارع اللبناني المؤيد له ومعه حلفاؤه أظهروا تعاطفاً غير مسبوق مع المعتقلين وأهاليهم فتوحّد المشهد… لا للتطبيع مع أي عميل إسرائيلي.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/09/14