هل يعالج الانفجار الشعبي مأساة لبنان أصلاً ونتيجة؟
العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن رسم الـ 6 التي حاولت الحكومة فرضه شهرياً على الـ «واتس أب» في لبنان أكثر من مفجّر لجبل من التراكمات الموجعة التي تجمّعت على صدر المواطن اللبناني وعلى كلّ لبنان منذ العام 1989 تاريخ اعتماد وثيقة الطائف التي أسميت «وثيقة الوفاق الوطني» والتي عوّل البعض عليها لتكون مدخلاً الى إصلاح سياسي يقود الى إقامة دولة المواطن العادلة.
لكن لبنان وجد نفسه بعد الطائف محكوماً بنظام سياسي طائفي قائم على مقولة الديمقراطية التوافقية» و»الميثاقية»، وهما مقولتان نسفتا الديمقراطية الحقيقية كلياً، وأقامتا حكماً عجيباً لا مثيل له في الأرض، وقد ركّز هذا الحكم السلطة الفعلية في يد أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الخمسة ولا يضع حداً لولايتهم إلا الموت أو الظرف القاهر. وفي الممارسة ألغت «الجماعة الحاكمة» استقلالية مؤسسات الدولة وأجهزتها وصادرت قراراتها بعد ان توزّعتها حصصاً وبات المواطن اللبناني ملزماً بالولاء للزعيم إذا أراد الولوج للدولة او يبقى خارجها من غير عمل فيضطر الى الهجرة بعد ان انعدم تكافؤ الفرص وأفضلية الكفاءة، ما أنتج وضعاً قاتلاً للشباب والخبرات والكفاءات اللبنانية التي وجدت نفسها خارج الوطن تبحث عن عمل يحفظ الكرامة دون الاضطرار لإراقة ماء الوجه على اعتاب الزعيم.
أما المال العام فقد اعتبرته «الجماعة الحاكمة» حقاً ذاتياً وملكية خاصة لها تتقاسمها في ما بينها، لا بل تسرقه بدون وازع لا يرهبها قانون ولا سيف عدالة او حكم قضاء وكيف تخاف وهي متحصّنة بحصانة دستورية أقفلت باب المساءلة القضائية فيها بإجراءات وأصول محاكمة من المستحيل ان تسمح بملاحقة وزير أو نائب او رئيس بأيّ فعل كان جنحة أو جناية.
في ظلّ هذا الواقع وبهذه الممارسة نُهب المال العام وفُرض الدفع على المواطن وتراجعت الخدمات وأبقيت من غير إصلاح لتبقى مزاريب السرقة سالكة، وساد الفساد الذي تحوّل الى مذهب سلوكي عام يعتنقه المسؤولون للإمعان في النهب وإذلال المواطن وحرمانه، وعندما نقول المسؤولين نعني بهم في الأساس الجماعة الحاكمة ومن معها من أتباع وأدوات،
أدى السلوك المذكور الى تراكم الديون على الدولة وزيادة أعباء الخزينة العامة، هنا دخلت الجماعة الحاكمة في مأزق التمويل فاختارت الطريق الخطأ واتجهت الى جيب الفقير بدل ان توقف السرقة وتحدّ من موارد الجيب الكبير، ثم قامت بتشديد الضغط على جيب الفقير المحتاج كلما انحسر المال ومصادر التمويل في الدولة، الى ان وصل الفجور والوقاحة لدى أهل السلطة إلى حدّ اقتراح رسم 1000 ليرة على «نفس النارجيلة» ورسم على خدمة الواتس أب المجانية في كلّ أنحاء العالم، هذا فضلاً عن مدّ اليد الى معاشات المتقاعدين عامة والعسكريين خاصة، أما مصادر التمويل الحقيقية لا بل مواطن الخلل الضريبي الرئيسية فقد حماها أهل السلطة بممارسة أقصى درجات الضغط، لأنها أموالهم ومسروقاتهم فلم يقاربوا على سبيل المثال المصارف وأرباحها الخيالية ولا الممتلكات البحرية والاعتداءات على الملك العام فيها إلخ…
في ظلّ هذا السلوك تحوّل المجتمع اللبناني الى مجتمع محروم من أدنى مستلزمات الحياة وبات مهدّداً في رغيف الخبز والدواء والطاقة، فضلاً عن انعدام فرص العمل واستشراء البطالة، لكن الأهمّ في هذه النتائج انّ الفقر والبطالة وحّدا اللبنانيين وأسقطا الحدود بين الطوائف والمذاهب والمناطق، وهي الحدود التي حرصت الجماعة الحاكمة والطبقة السياسية على رفع جدرانها وحراستها لأنهم يجدون في ذلك خير معين لاستمرار سلطتهم وإماراتهم ومملكاتهم وإقطاعياتهم.
في هذه اللحظة الحرجة جاء رسم «الواتس أب» وشكل المفجّر لهذه الحالة الشاذة، فخرج الشعب متحرّراً من المناطقية والمذهبية والطائفية متوحّداً على لبنانيته ومواطنيته وحقوق هذه المواطنية خرج مطالباً بإسقاط الحكومة وهو في الحقيقية لا يتوجه الى أشخاص الحكومة الحاضرة فحسب بل ويقصد إسقاط الطبقة السياسية وتالياً إسقاط النظام الذي مكّن هذه الطبقة من النهب والسرقة، ولهذا توحّدت الجماهير عند مقولة «كلن يعني كلن» أيّ كلّ من تولى سلطة قادت إلى هذا الواقع منذ 3 عقود، وكلّ من استفاد من ثغرات هذا النظام فنهب وسرق وأفسد.
قبل هذا الانفجار وأمام هذه المآسي كانت محاولات إصلاح من هنا وهناك لكنها اصطدمت بكتل المفسدين وبحيتان المال والطغمة المستفيدة، التي كانت تشهر سيف الطائفية وحقوق الطوائف وتجهض محاولات الإصلاح، وأهمّ الطروحات هذه كان ما اقترحه السيد حسن نصر الله من «مؤتمر تأسيسي» لمراجعة النظام والبحث في إقامة نظام الدولة القوية العادلة، ولكن حراس الطائفية ومستثمريها وممتصّي دماء الشعب باسمها رفضوا الفكرة وكادوا ان يفجّروا الأوضاع الأمنية ويفجّروا لبنان من أجل مصالحهم… وطوي الموضوع.
اما اليوم وبعد ان بلغ السيل الزبى وعجز اللبنانيون عن مزيد من التحمّل، خرجوا الى الشارع وأطاحوا بكلّ الحدود والجدران التي قسّمتهم ونزلوا الى الساحات مطالبين بحقوقهم المصادرة والمنهوبة. انه انفجار شعبي عفوي جاء نتيجة منطقية لواقع بات لا يُحتمل وبالتالي يستحق هذا الانفجار كلّ الدعم والتأييد لأنّ فيه تأييد المظلوم بوجه الظالم، ولكن هنا تكمن مشكلة تحديد الظالم، لأنّ اتهام البريء من شأنه ان يخفف عن الجاني المرتكب.
انّ الانفجار الشعبي الراهن هو عمل مشروع ومنطقي وضروري من أجل أن تقول للناهب الظالم «كفى وأريد حقوقي التي أنت اغتصبتها»، وهنا تبدو الحاجة لا بل الضرورة القصوى الى وضع خطة عمل منطقية وعلمية أيضاً في سبيل هذه الاستعادة فالفقر والعوز ما كان ليحصل لو كان في لبنان نظام وطني قائم على المؤسسات الوطنية غير الطائفية نظام فيه الرقابة والعقاب ولا يؤمّن حصانة ومناعة لمرتكب أو فاسد أو مرتش. فالانهيار الذي نحن فيه هو نتيجة سبّبتها طبيعة النظام الطائفي التحاصصي لذلك فإنّ العلاج يجب ان يكون منصبّاً على الأسباب دون ان نهمل النتائج.
انّ لبنان بحاجة الى معالجة جدية للأزمة الاقتصادية والانهيار الاقتصادي الذي يعانيه وقد تكون تدابير الحكومة بالأمس مدخلاً لذلك ولكنه غير كاف مطلقاً، فالمعالجة الفعلية الحقيقة تكون في معالجة السبب أيّ معالجة أصل النظام والبحث عن نظام يقيم الدولة القوية العادلة المستقرة، دولة المواطن والكفاءة وتكافؤ الفرص وليس دولة الطوائف وزعيم الطائفة. دولة لا يعلو فيها أحد فوق القانون ولا يبقى فوق القضاء والمحاسبة، دولة لا تحمي لصاً او ناهباً أو مرتكباً دولة لا يتحصّن فيها المجرم بطائفته ومذهبه ومنطقته.
انّ من أهمّ إيجابيات هذا الانفجار الشعبي اللبناني الراهن هو انه أثبت وعبر الشارع وعلى مرأى ومسمع من العالم وخلافاً لكلّ ما كان يروّج له أثبت انّ في لبنان شعباً واحداً يريد وطناً للعيش الكريم، شعب يريد دولة في وطن واحد، شعب لا تقسمه المذاهب والطوائف والمناطق أنها صورة مشرقة براقة، ولهذا وجب الحرص عليها في وطنتيها ووحدتها ونقائها وان لا يسمح لسفارة او دولة ان تتسرّب الى نسيجها وتحدث فتنة وتصفي حسابات مع مكونات هزمتها في الإقليم…
انّ كلّ لبنان مع ثورة شعبه المطلبية في وجهها الاجتماعي ومطالبها للعدالة الاجتماعية وفي وجهها السياسي الهادف لإقامة نظام العدل والقوة، لكن أحد من وطنيّي لبنان لن يكون مع أصوات النشاز والانحراف التي تتعرّض لمسائل لا صلة لها بالموضوع الذي من أجله خرجت الناس فاستثمار وجع الناس لغايات سياسية عدوانية ضدّ الوطن مرفوض وعلى العابثين بالشأن الوطني ان يراجعوا ويفهموا جيداً هذا الأمر.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/10/22