استشهاد سليماني والمهندس: إنها الحرب
حسن عليق
لم يكن الحاج قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، يتخذان اجراءات امنية غير اعتيادية. على العكس من ذلك، حركتهما كانت شبه طبيعية، وشبه علنية. في بغداد، كان يُعرف موعد قدوم «الحجّي» من طهران أو من غيرها، إلى العاصمة العراقية، من قِبل غالبية العاملين في الشأن العام. وكان يٌعرف من التقى، ومن سيلتقي. كان الرجلان قريبين من الموت مرات كثيرة. عند محاور القتال، في لبنان والعراق وسوريا، أو على مهداف قتلة الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية غير مرة. لكن قرار عدم اغتيالهما سابقاً كان نتيجة لقوة الردع في محور المقاومة. واغتيالهما فجر اليوم، لم يكن عملية أمنية معقدة؛ لكنه، في الميزان السياسي والعسكري، العملية الأقسى التي يتعرّض لها المحور، منذ استشهاد الحاج عماد مغنية، على أقل تقدير، وعلى مستوى أوسع. ضربة لئيمة، تفتح باب الجنون في الإقليم. من اتخذ القرار، هو إما غبيّ لا يدري ما أقدم عليه، أو، والأرجح، انه يفتح باباً لحرب اعدّ لها مسبقاً. هو قرار تريد منه الولايات المتحدة الأميركية القول لمحور المقاومة إن «قوة ردعك تتآكل، ولن يثنينا شيء عن منعك من طردنا من الاقليم، وسنستهدف كل قادتك ونقاط قوتك». هي معادلة «صفرية»، سيكون على محور المقاومة ألا يتعامل معها إلا بما يوجب الثأر، لا طلباً للثأر وحسب، بل لإعادة الاعتبار إلى قوة ردعه، وترسيخ ما انجزه على مدى عقود. اغتيال قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، الحاج قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، في بغداد، قبيل منتصف ليل الخميس - الجمعة (2-3 كانون الثاني 2020)، لا يمكن أن يمر كغيره من الاحداث في الإقليم.
سليماني هو الجنرال الإيراني الأشهر، شريك الحاج عماد مغنية في الدفاع عن لبنان في حرب تموز - آب 2006، والداعم الاول للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق، ومهندس خطوط الدفاع عن دمشق، والشريك الميداني للرئيس السوري بشار الأسد في المعارك السورية الكبرى (كمعركة استعادة حلب، على سبيل المثال لا الحصر)، والرجل الذي فاوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإقناعه بالتدخل في سوريا، وشريك مدير الاستخبارات التركية حقان فيدان في تسويات الشمال السوري وغيرها، وصلة الوصل الأولى بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية. في عهده تحوّلت قوة القدس في الحرس الثوري إلى قوة عسكرية إقليمية عظمى، تعمل كقوة إسناد حربي و«لوجستي» في المناطق الممتدة من اليمن جنوباً، إلى ما بعد العراق شمالاً، مروراً بلبنان وسوريا وفلسطين، وخاصة في قطاع غزة حيث له نصيب كبير في تطوير قدرات المقاومة. في سوريا والعراق، تلاحقه اسرائيل ملاحقة استعلامية حثيثة، وعملياتية، لمنعه من نقل أسلحة كاسرة للتوازن إلى البلدين، و«استنساخ» تجربة المقاومة اللبنانية فيهما، وهو ما ترى فيه تل أبيب خطراً وجودياً.
الحاج قاسم سليماني قضى على الطريق من مطار بغداد إلى العاصمة العراقية. هو نفسه، في نظر محور المقاومة، طريق القدس. كان آتياً من دمشق، فخرج المهندس لاستقباله في المطار. غادرا في «موكب» بسيط، مؤلف من سيارتين لا اكثر. استهدفتهما طائرات اميركية، بعيد انطلاقهما من المطار، ليقضي كل من كان في السيارتين، وبينهم، إلى سليماني والمهندس، مسؤول التشريفات في الحشد الشعبي، محمد رضا الجابري، وعدد من أعضاء الحشد.
اما المهندس، (اسمه الحقيقي جمال محمد جعفر) فهو، عملياً، قائد أركان «هيئة الحشد الشعبي». النائب السابق في البرلمان، عاد إلى بغداد عام 2003، آتياً من طهران بعد تهجيرٍ دام أكثر من عشرين عاماً. معارضته لحكم «البعث» والرئيس صدّام حسين أوصلته الى نهاية المطاف أن يكون قائداً لـ«فيلق بدر»، منتصف الثمانينيات. اكتسب في تلك الفترة خبرة عسكرية واسعة، ما لبث أن طورها في مقاومة الاحتلال الأميركي، وقتال «داعش». الرجل الستيني، ابن مدينة البصرة، متّهمٌ بجملة قضايا «إرهابية»، كتفجيرات الكويت التي استهدفت السفارتين الأميركية والفرنسية عام 1983.
سارعت واشنطن إلى تبني عملية اغتيالهما، على لسان مسؤول تحدّث إلى «رويترز». اغتيالهما أتى في سياق سياسي وعسكري عراقي شديد التعقيد. انتفاضة شعبية تسعى واشنطن إلى استثمار نتائجها لصالحها، والتأسيس عليها لتقليص نفوذ طهران في بلاد الرافدين، وتنفيذ انقلاب ضد الحشد الشعبي وفصائل المقاومة العراقية. اما عسكرياً، فلجأت قوات الاحتلال الأميركي، يوم الاحد الماضي، إلى الاعتداء على مقار للحشد الشعبي عند الحدود العراقية - السورية، قرب مدينة القائم، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 25 مقاتلاً، وجرح العشرات. لم يكن ذلك رداً على استهداف موضعي لقاعدة عسكرية أميركية في بغداد، بل سعياً من قوات الاحتلال إلى تثبيت قواعد سياسية جديدة، عنوانها الفصل بين سوريا والعراق، وتحجيم «الحشد» وباقي قوى محور المقاومة في بلاد الرافدين.
كان الجميع في انتظار الرد على الاحتلال الأميركي، فإذا به يذهب بعيدا، فجر اليوم، باغتيال الحاج قاسم والمهندس، في عملية عنوانها هذه المرة الفصل بين ايران والعراق، ومن خلفه باقي قوى المحور.
ماكينة الشائعات الأميركية - الخليجية انطلقت فور تنفيذ الجريمة. جرى التداول بأسماء قادة من حزب الله اللبناني للقول بأنهم استشهدوا مع سليماني والمهندس، إلا أن مصادر عراقية ولبنانية نفت وجود أي شهيد من الحزب في العملية. بعد ذلك، نشرت قناة «العربية» السعودية خبراً مفاده أن قوات المارينز اعتقلت قائد «عصائب اهل الحق» الشيخ قيس الخزعلي، وقائد منظمة بدر هادي العامري. الخبر ليس صحيحاً، لكنه مؤشر إلى لائحة الأهداف الاميركية في «أرض السواد». الخزعلي والعامري كانا إلى جانب المهندس وغيره من قادة الحشد الشعبي وفصائل المقاومة العراقية، يقودون الجماهير التي اقتحمت مجمع السفارة الأميركية في بغداد الثلاثاء الماضي، تعبيراً عن الغضب لعدوان القائم.
اغتيال سليماني والمهندس، ليس حدثاً عابراً. هو قرار اتخذته الإدارة الأميركية بإشعال الإقليم، وفي أقل تقدير، محاولة لإعادة الزمن إلى الوراء، ومحو النتائج التي أفرزها صمود محور المقاومة في لبنان وسوريا واليمن والعراق وفلسطين، وسعي إلى المزيد من العدوان الذي يُراد منه تدمير كل المنجزات التراكمية لهذا المحور. ومن دون أي «معلومة» من أي «مصدر موثوق» في المحور، يمكن توقّع رد فعله. ثمة خطوط حمراء أسقطها اغتيال سليماني تحديداً... وبناءً على ذلك، ستدفع الولايات المتحدة الثمن باهظاً. فالخطوط الحمر لا تسقط من جانب واحد.
جريدة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/01/03