هل قرر الأميركيون القضاء على الاتحاد الأوروبيّ؟
د. وفيق إبراهيم
يصعَقُ هذا الاستنتاج المعتقدين بصلابة الاتحاد بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، فلماذا يقتل برأيهم الحليف حليفه، خصوصاً في مراحل شديدة السخونة على مستوى الصراع العالمي؟
هناك قسم آخر من المتابعين يرون بأن الأميركيين يُخففون من أحمالهم الثقيلة في هذه المرحلة التي تذهب فيها العلاقات الدولية نحو تغيير في القوى التي تتحكم في إنتاج قراراتها، وهذا يشجّع على تأييد مقولة المروّجين لتخلي الأميركيين عن حلفائهم الأوروبيين، خوفاً من بعض اتجاهاتهم التي تحاول التحرّر من وصاياتهم التي بدأت منذ الحرب العالمية الثانية 1945.
لكن الأوروبيين بدأوا منذ تشكيل السوق الأوروبية المشتركة في 1957 بمحاولة تشكيل معادلة تقود قارتهم القديمة نحو استرجاع عالميتها المفقودة تحت وطأة الصراع الأميركي السوفياتي. وكان الفرنسيون بالطبع قادة هذه المحاولات، خصوصاً في مرحلة قائدهم الرئيس شارل ديغول الذي بذل جهوداً كبيرة لترجمة زعامته الفرنسية الكبيرة أوروبياً، وبالتالي عالمياً، وذلك بالانتفاضة على وصايات الأميركيين.
أما المانيا فلم يكون عودها قد اشتد اقتصادياً كما هي عليه الآن، وكانت لا تزال تعاني من آثار خسارتها في الحرب العالمية الثانية والاحتلال العسكري الأميركي – السوفياتي لها.
هذا بالإضافة الى ان بريطانيا رفضت الانتساب في ذلك الوقت الى السوق الأوروبية المشتركة.
لقد أدّى تأزم الصراع الأميركي السوفياتي الى مزيد من الارتباط الأميركي الأوروبي بذريعة الخطر الشيوعي وضرورة وقفه عند حدود أوروبا الشرقية وإجهاض رحلته نحو الشرق الاوسط النفطي.
فبدت أوروبا الغربية في صراع مع روسيا إنما لخدمة حليفها الأميركي الذي دفعها لتحويل سوقها المشتركة اتحاداً أوروبياً لتعزيز آليات صراعه مع السوفيات، ما دفع بريطانيا الى الانتماء الى هذا الاتحاد منذ 1973 وعززت بذلك الإمساك الأميركي بدفة سياساته، لذلك لم يتمكن الأوروبيون من إعطاء اتحادهم وزناً قطبياً على الرغم من بعض المحاولات نحو الاستقلالية التي قادها رؤساء فرنسيون مثل ديغول ومتيران وشيراك، وسط تمحور بريطاني – ألماني كامل خلف واشنطن.
لقد ادى هذا الاتحاد الأوروبي معمودية النار الأميركية بأمانة أدت الى سقوط الجوار التاريخي الذي كان يفصل بين الالمانيتين الشرقية والغربية وأخذت دول أوروبا الشرقية تتهاوى الواحدة تلو الأخرى نحو المعسكر الغربي وتخلت عن حليفتها الاتحاد السوفياتي الذي بدأ منذ الثمانينيات يرسل إشارات بدخوله مرحلة الوهن التاريخي التي تسبق عادة السقوط الدراماتيكي.
وبالفعل سقط الاتحاد السوفياتي في 1989، وانهارت معه أوروبا الشرقية، فبدأ الأميركيون يخططون لعصر أحاديّتهم القطبية من دون منافس. وهذا يتطلّب إزالة الآليّات التي كانوا يعتمدون عليها في منافسة السوفياتي.
لذلك لم يستشيروا حلفاءهم الأوروبيين في خطة وضع يدهم على العالم حتى في شرق أوروبا وافغانستان وأميركا الجنوبية ومعظم الشرق الاوسط.
لقد بدا الاتحاد الأوروبي في مرحلة 1990 – 2010 تائهاً ضائعاً يعاني من إهمال أميركي وغياب روسي عن مسرح المنافسات محاولاً اختراق إيران وسرعان ما ينكفئ تحت وطأة تهديد أميركي، فيسعى إلى توطيد علاقاته مع الخليج إنما من دون جدوى، لأن الهراوة الأميركية فوق كل الرؤوس حتى أن الأميركيين حالوا دون دور أوروبي واضح مع الدولة السورية فعوّضوا لهم بدور تافه في أنحائها الحدودية مع تركيا، بذلك ازداد الاتحاد الأوروبي ضحالة في الانتشار وتواضعاً في النفوذ الى ان عاد الروس الى المسرح الشرق أوسطي متسببين مع حلفائهم السوريين والإيرانيين وحزب الله بتراجع أميركي كبير في نفوذهم الشرق أوسطي. وهذه جهود ادت قسماً كبيراً منها إيران خصوصاً بمقاومتها محاولات الأميركيين لإسقاطها والهيمنة على اليمن والعراق.
إن هذه التطورات تسارعت من دون أن يتمكن الأوروبيون من الاستفادة منها وبناء معادلات نفوذ لهم في مناطق الغاز والنفط في الشرق الأوسط، منقسمين الى ثلاثة محاور: انجليزي منسحق في السياسة الأميركية، المانيا متجاهل للسياسة ومتوغل في الغزو الاقتصادي للعالم، وفرنسي يحاول استعادة أمجاد أوروبا الجيوبوليتيكية لإدراك مستويات السيطرة الاقتصادية.
ماذا كانت النتائج؟
ظلت بريطانيا دمية أميركيّة، وبقيت على اقتناعها بأن تطورها الاقتصادي رهن بعلاقتها مع السيد الأميركي في إطار الانصياع السياسي، فيما استمرت فرنسا بمحاولة تأسيس علاقات مستقلة مع روسيا والصين والشرق الأوسط.
مع الإبقاء على تقارب سياسي مع الأميركيين، لكن ألمانيا بمفردها فهمت اللعبة، استفادت من سياسات فتح الحدود السياسية أمام السلع الاقتصادية التزاماً بالمشروع الأميركي الذي امتطى سلاح العولمة وسيلة لاختراق الأسواق.
بذلك نجحت المانيا بالصعود الاقتصادي من مراتب وسطية الى الدولة الرابعة في الاقتصاد العالمي مباشرة بعد الأميركيين والصينيين واليابانيين مع إمكانات إضافية لإدراك المرتبة الثالثة.
للإشارة فقط فإن قوات أميركية لا تزال موجودة في المانيا منذ الحرب العالمية الثانية كناتج لهزيمتها العسكرية في تلك المرحلة، ولليابان أيضاً الوضعية نفسها.
لقد تقاطعت هذه الاوضاع مع التراجع الأميركي الكبير في النفوذ العالمي، ليس فقط في الشرق الأوسط وانما في أميركا الجنوبية والشرق الاقصى ما استدعى ولادة شعور أوروبي بقرب انهيار نظام الاحادية القطبية الأميركية، هذا ما عبر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون الذي اعترف ان النظام الغربي العام الذي سيطر على العالم بواسطة فرنسا في القرن 18 وبواسطة بريطانيا في القرن 19 وعبر أميركا في القرن العشرين، هذا النظام يشهد نهايته حالياً لمصلحة ولادة نظام رباعي متعدد القطب، رأى ماكرون انه يضمّ الى الأميركيين الروس والصينيين والأوروبيين وهذا بحد ذاته كافٍ لإعلان الغضب الأميركي على الاتحاد الأوروبي، لذلك دفع البيت الابيض باتجاه تزكية الخروج البريطاني منه، مع تشجيع كل التيارات الأوروبيّة المحافظة اليمينية الى سحب دولها من اتحاد القارة العجوز.
بذلك تعاود القوى الأوروبية غير الموحّدة الاندماج في القوة الأميركية الواحدة تحت وطأة الذعر من عودة روسيا الى العالمية، فهل تنسحب دول أوروبية أخرى من الاتحاد؟
إن معظم الأحزاب المحافظة التي تصل الى السلطة لا تنفك تعلن عن رغبتها بالخروج وتتحيّن الظروف السياسية المناسبة، فعودوا الى السيدة لوبين زعيمة المحافظين الفرنسيين التي تعلن صراحة عن اشمئزازها السياسي من الاتحاد الأوروبي وكذلك الاحزاب المحافظة في النمسا وايطاليا والمانيا، فهل يسقط الاتحاد الأوروبي؟ المعتقد أن الاتحاد بقوتيه الفرنسية والألمانية الاساسيتين يتجه الى الاستمرار انما في اطار من الاستقلالية مع تعاون مع الصين وروسيا لحماية أوروبا من مزيد من الانهيار، لكن هذا الدفع يحتاج الى نجاح أوروبي في اختراق الشرق الاوسط من واحدة من بوابتيه الإيرانية او السورية وهاتان البوابتان كلتاهما تعودان الى بعضهما بعضاً. وإن غداً لناظره قريب.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/02/04