أنا
جعفر كريم
تخيَّل أنَّك تعرف 100 شخص كمعدّل، يتفاعلون جميعهم معك في أغلب أوقات حياتك، من العمل إلى المنزل والمقهى، وحتى الحيّ والشارع الذي تسلكه كلّ يوم، وكلّ فرد منهم يخلق لك في ذاته نسخة خاصّة بك، تعبّر عن كيانك بالنسبة إليه.
غالباً ما نجهل أنَّ أوّل عدوّ للإنسان هو نفسه. وعلى الأرجح، إنَّ العدوّ الوحيد للإنسان هو نفسه، والنَّفس هي الأنا الذاتية لدى كلِّ فردٍ في المجتمع، والتي تختلف أو تجتمع في ما بينها لتشكّل الوعي الاجتماعيّ الخاصّ في بيئة معيّنة.
لماذا نحن أعداء أنفسنا؟ ولماذا الأنا عدوّ؟ وكيف نستطيع تصنيف الأعداء أو الأصدقاء؟ وما المعايير المُتّبعة في تلك التصنيفات؟ وما تأثيرها الداخليّ والخارجيّ والمستقبليّ في حياتنا كأفرادٍ أو مجموعات اجتماعيّة؟
يُقسّم عِلم النفس الشخصية البشرية إلى 3 أقسام: الهو، الأنا، والأنا العليا. تحدّد هذه التقسيمات شخصيّة كلّ كائن بشريّ على وجه الأرض، والتحكّم بهذه التشعّبات الشّخصيّة يجعل الإنسان حالةً استثنائيةً في هذا العالم المادي، بحيث يستطيع التكيّف والعيش في جميع ظروف الحياة وأشكالها.
لكن غالباً ما نفشل في هذا التحكّم، لأننا لا نُدرِك وجود تلك التشعّبات الشخصية داخل عقولنا وطفراتنا الجينيّة. وعلى الأقل، إن عرفنا بها، فإننا نفتقر إلى مقوّمات تدريبها وتهذيبها على أفضل سبيل لبلوغ السعادة المُطلقة.
إنَّ ارتباطنا بقوانين الحياة وامتثال أجسادنا ووجودنا لتلك القوانين، يشير إلى عَظَمَة الوجود والقوَّة الخفيّة الهائلة التي تكمُن وراء ذلك الارتباط العجيب، ونحن غالباً ما نستسلم لهذا الترابُط، ولا نمتلك الجرأة الكافية للقيادة، ما يجعلنا أصناماً مُتحرّكةً أو مجانين عَظَمَة إذا ما بالغنا فيها، والمُبالغة تؤدّي إلى التهوّر والتدهور الحتميّ كما التسليم المُطلق.
على وجه الكرة الأرضيّة، يسجّل عدد السكّان حوالى 7 مليارات نسمة، وهو رقم بسيط جداً بالنسبة إلى الكون، وهائل جداً بالنسبة إلينا وإلى النفس البشرية. تخيَّل أنَّك تعرف 100 شخص كمعدّل، يتفاعلون جميعهم معك في أغلب أوقات حياتك، من العمل إلى المنزل والمقهى، وحتى الحيّ والشارع الذي تسلكه كلّ يوم، وكلّ فرد منهم يخلق لك في ذاته نسخة خاصّة بك، تعبّر عن كيانك بالنسبة إليه.
هنا نحصل على 100 نسخة منك. كلّ نسخة لها خواصها الحصريَّة، ولا تُشبه قرينتها في شيء. وإذا أمعنّا النظر، فإننا نلاحظ أنَّ تلك النسخ لا تمثّلك بتاتاً، وهي ليست أنت في الحقيقة. إنها نتاج خلق وَهْميّ في عقول الناس المحيطة بنا في مجتمعنا الخاص، وهو ما يؤدّي في أغلب الأحيان إلى الاهتمام المُفرَط بآراء الناس تجاهنا، ويدفعنا إلى أن نعمل بجهدٍ على تحسين صورتنا لديهم، فنصير عبيداً لأفكار غيرنا لإرضاء الأنا فينا.
من الطّبيعيّ أن نتأثّر بمَن حولنا، وأن نسعى دوماً إلى أن يكوِّن الغير صورةً جميلةً عنا، لكنّنا نغفل عن أن جمال الصورة يجب أن يمثّلنا، لا أن يمثّل علينا، بحيث نتلقّى رضا مؤقتاً عن أنفسنا سُرعان ما يتلاشى عند أول انتقاد يُوجَّه إلينا أو تغيِّر في المزاج.
هنا تكون الأنا عدواً، وهي عدو شرِس يستطيع أن يلتهمنا بسرعةٍ فائقةٍ كلّما غُصنا في أعماق التفكير العَدَمي. عليك أن تدرك أن النسخة الأصلية منك موجودة لديك. لديك فقط! وكلّ نسخة مُبتكَرة عنك تمثل شخصَ مُبتكرِها ومُعاناته في هذه الحياة. ولذلك، اسعَ إلى إرضاء ذاتك، ولا يكُنِ هذا الرضا على حساب الغير، فيتحوَّل إلى غرور.
إنَّ الرضا هو ما يشكّل حالتك الاجتماعيّة وتواصلك مع أبناء جنسك في العالم المادي، إذ إنّنا نجذب إلينا كلّ الأفكار التي نخلقها، كما نجذب أفكار غيرنا تجاهنا، لنشكّل عالمنا الخاص والمنزوي والمُشبَع بكلّ الأفكار السلبيّة والإيجابيّة في بعض الأحيان.
إنّ إدراك حقيقة مسؤوليّتنا عن جَذْب كلّ ما يحدث معنا في العالم المادي، يطلق العنان للعقل للعمل على التّغيير نحو الأفضل والأمثل، فكلّ الأفكار الّتي تدور في رأسنا تُدير حياتنا. وبمعنى آخر، تقودنا إلى تحقيق تلك الأفكار، سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، فالكون يستجيب بحسب الطّلب، ولا يُفرّق بين السّلبي والإيجابيّ، ذلك أنَّ هذا الدّور يقتصر على العقل في تحديد هُوية الأفكار، وعلى الأنا في ترويضها وتهذيبها، كي لا تؤدّي إلى الفشل أو الغرور.
ونحن كثيراً ما نقوم بانتقاد أشخاص على خلفيّة أفعال تزعجنا أو تخدش حياءنا، ضاربين عرض الحائط أفعالنا الشنيعة التي نمارسها ونظهر نقيضها في المجتمع. كذلك هو النفاق في الأنا الوجودية لكلِّ شخص فينا.
ولو فكَّرنا في تكريس تلك الطّاقات التي نهدرها في الانتقاد والتعويض عنها، بالنّظر إلى الإيجابيات التي توحّدنا وتشكّل منا طاقة كونيّة لا مثيل لها في الوجود، لكوَّنا نسخة أصليّة عن قوّة المجموعة واستسلام قوانين الكون لها نحو مجتمع يتجاهل الحديث عن الكراهية، ويغذّي حواراته بكلّ معاني الحبّ والتسامي، حتى نصل بها إلى غاية الوجود في هذا العالم المادّي.
أضيف بتاريخ :2020/02/12