الموقف السياسي... وحدود المواجهة: اضربوا رأس الأفعى
حسن خليل
ثمة حدود لا تكون واضحة أو معترفاً بها، هي تلك الخطوط الوهمية الواقعة بين حدَّي «الممكن» أو «المفترض أن يكون» في العمل السياسي وطبيعته. ملامحها، لا تُرى أو تُحسّ، لكن نتائجها تكون معلومة بما هي انعكاس حقيقي وجدّي لطبيعة اختلاف المشاريع وتنوّعها، واستنتاج لاختلاف الهويات الحاملة لها أو المُعبّرة عنها. لذا، من أجل انتظام الحياة السياسية، من الضروري أن تكون حتمية الاختلاف مرتبطة بالبرنامج والسلوك والممارسة، وكذلك بالجو العام الحاضن والمكوّن لها.
هذ الواقع يجعل المواطن أمام سهولة مطلقة في انتقاء الخيارات الملائمة له ولطموحاته، وعلى أساس تلك الملاءمة يتكوّن وعيه الخاص أو الجماعي المرتبط بكيفية الاختيار بين المشاريع المطروحة وسبب ذلك. وضوح الخيارات يجعل الصراع السياسي عملية سلسة منتظمة ومتفاعلة ومنتجة لمشاريع سياسية، مؤسسة لحياة عامة خارج الأطر التقليدية المتعارف عليها كالانتماء القبلي أو العرقي أو الطائفي أو العائلي... فمنطق التناقض بين المشاريع المطروحة والهويات الحاملة لها يصبح ضرورة لتبيان خطّ «الفصل» في ما بينها، وأي انتفاء لتلك الأسباب المكوّنة للصراع يُفقده علّة وجوده.
على هذا الأساس، يشكّل التناقض الواضح الحدّ الذي يصعب العبور من خلاله من جهة إلى أخرى، من دون عوائق أو موانع، لأنَّ الانتقال من مكان إلى آخر في مجال السياسة لا يجوز، تحت أيّ ظرف، أن يكون سهلاً وغير ذي أهمية أو تأثير. هذا مؤشر إلى غياب المبدئية في طبيعة المشاريع وهوية حامليها. كذلك، فإنّ صعوبة الانتقال هذه، تُعبّر عن جذرية القضايا وصدق من يمثلها، وأي تخفيف لأيٍّ من تلك المنطلقات هو تخلٍّ عن شرط ضروري من شروط الصراع وانتظامه، والذهاب به إلى صراع فوقي، مرتبط بتبدل في مواقع عليا نتيجة توافق مصالح فئة ما، سياسية كانت أو اقتصادية، مرتبطة بأخرى أو برأس مال أو بارتباطات بعيدة كل البعد عن المشاريع والبرامج السياسية.
تأسيساً على هذا المنطق، تصبح مسألة فهم الصراع الدائرة في منطقتنا بشكل عام، وفي بلدانها بشكل خاص، خاضعة لمعايير مختلفة، يمكن أن تكون متعارضة مع الخطاب السائد أو المعمول به. فالمنطقة خاضعة لمفاعيل ثقل سياسات قرن من الزمن ومرتبطة بأهدافها، ولم تهدأ بعدُ موجات المدّ الغربي من طرق سواحلها، وإن تعدّدت المراكب وتنوعت بعض وجهاتها، إلّا أن المشترك ــ الثابت بين كل تلك المراكب، كان راية الإمبريالية الغربية، بشقّيها: الاستعمار ورأس المال. لقد توالت موجات تلك الحملات، منذ أن عُدّلت خرائط المنطقة وفق مصالح «مشروعٍ وليد» أفرزته دولٌ ربحت حروباً دارت رحاها في ما بينها. وعلى ذلك، أخذت محددات الصراع في التبلور، وإن كانت في أكثرية جولاتها ردوداً على أفعال معمول بها. فبين قضية التحرير الوطني ــ المشتركة بين أكثرية بلدان المنطقة ــ ومسألة التحرّر، اختلّت الموازين لمصلحة نمط من علاقات تبعية بين المحتل وبلدان احتلاله، وعلاقات وظيفية مع آخرين، وصولاً إلى تجذير منطق الهيمنة وديمومتها من خلال تركيب نظم سياسية متوارثة بمهام واضحة، تتمثلُ بحفظ مصالح دول «المشروع» دائم التجدد. على أساس ذلك التوصيف، يمكن مقاربة أزمات بلدان منطقتنا، الواقعة اليوم بين حدود التقسيم والهيمنة والإرهاب.
إن قوس الحروب يمتدّ على مساحة المنطقة، كساحات ودول مشاركة، تُهدر فيها الإمكانيات وتُستنفد. لا أفق منظوراً لانتهائها، وإن انتهت، فما ينتظر حكوماتها سيكون أكبر بكثير من تداعياتها المباشرة كالقتل والتدمير والتهجير، ليصل إلى مسألة التصدّي لموجبات إعادة البناء وعلى مختلف الصعد، وفي المقدمة منها بناء «الدولة»، والتي نعني بها هنا بناء «الدولة القادرة» بكل مندرجاتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل قضاياها، من تحديات الدفاع عن حدودها الوطنية إلى مسألة التنمية وبناء الاقتصاد القادر والمنتج الذي يحقق مبدأ الاكتفاء الذاتي والاستقلال وكسر التبعية ورفض الهيمنة، والذي سيؤدّي حتماً إلى الاستغناء عن «الوصي المفروض والمتوارث». وهي بذلك، ستكون معركة أشرس من الصراع العسكري، وعليه، فإن ألف باء النجاح فيها سيكون حتماً تحديد الخصم بكلّ وضوح، ومن دون أيّ التباس والتصويب عليه.
إن العائق التاريخي أمام تطور الشعوب، كان حرمانها من استثمار خيرات بلدانها، سواء البشرية منها أو المادية. ولم يكن من سبيل إلى ذلك إلّا تطابق مصالح الأقلية الممسكة والمتمسكة بالقرار المحلي (دينية، مذهبية، عرقية، سلالات، عسكر...)، المتوارثة سلطتها منذ زمن أو استعمار أو بواسطة انقلاب، مع الوافد الجديد المتمثل بإمبريالية متسلّحة برأسمال معزّز بقدرات علمية ونفوذ ومشاريع معلنة، مع ما سيشكل ذلك من حتمية تاريخية لمنطقية الصراع بين الضفتين؛ فتناقض الطبيعة بينهما سيؤدي حتماً إلى تناقض في الأهداف، وبالتالي في شرعية المواجهة.
لن نحلّل كثيراً في هذا الموضوع، ذلك أن صيرورة الأحداث شديدة الوضوح، ومنذ قرون عدّة. لكن إذا أخذنا المئوية الأخيرة المعاشة بالصوت والصورة، وكذلك الأحداث، فسنجد أنّ المعركة لمّا تزل هي هي، لم تتغيّر بجوهرها، وإن تبدلت طبيعة بعض قواها.
إن المشروع الإمبريالي الغربي الوافد منذ مئة عام، لم يكن في حسابه سوى تعزيز سلطته بتوسعه وهيمنته، وعلى ذلك أسس مساره المتدرّج في خياراته وأهدافه؛ انتداب فاحتلال، حروب فتقسيم. طويت رايات وعُلّقت أخرى، الثابت كان مزيداً من التبعية والهيمنة وبناء نظم هجينة لدول رُكّبت وفق قياسات تخدم أهداف الوافدين الجدد. لم تستطع التركيبة الملتبسة ــ المتوارثة من قرون بعيدة ــ مقاومة هذا المستجد «المتمدّن» ولا سياساته أو سلوكياته. ما استجد كان تبديلاً في طبيعة الصراع وبآليات جديدة، بحيث تم وضع المواطنين الواحد في مواجهة الآخر، حتى ولو كانوا يتقاسمون البلد نفسه أو المكان المشترك. لقد تمّ وضعهم متقابلين ومتناقضين حول الأصل والهوية والدين والعرق والإثنية والثقافة وغيرها، وليس حول سبل مواجهة الفقر وتأمين الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليم وإيجاد فرص العمل والحياة الكريمة، ما أدّى إلى نمو حالات من الفرز القائمة على الـ«نحن» والـ«هم» المرتبطة بالأصل والدين والمذهب والعشيرة والقبيلة. ولقد نمت مجدداً فكرة الكره والحقد المتبادل واستحضر التاريخ بويلاته ومآسيه، فذهب كل فريق إلى نبش أكثر الفترات السوداء قتامة، والتي لطالما اعتُبرت منتهية وتخطاها الزمن والوعي الإنساني: من حروب القبائل والعشائر إلى الغزوات المتتالية بين مغرب الأرض ومشرقها والمجازر التي ارتكبت في حقب غائرة في الزمن، إلى الاستعمار فالحروب الحالية وما يرافقها من حالات التهجير والتطهير، التي أصبحت مواد للمتاجرة السياسية وحالات الفرز القائمة على غير صعيد.
لقد طغى، وبشكل كبير ومخيف، الخطاب العنصري على مسرح الحياة السياسية في العالم، وما فكرة الـ«أنا أولاً» المرتبطة بالشخص أو الدين أو العرق أو الدولة، إلّا دليل على الواقع الحالي. لقد طغى الخطاب السياسي المرتبط بالتقوقع والكنتنة على الخطاب الجامع المرتبط بالقضايا والمشاريع الكبرى، كالتحرير والتحرّر والتنمية... ففكرة الانغلاق على النفس، ــ وهنا للتأكيد أن المقصود بالنفس هو الهوية أو المجموعة المتشابهة أو الكيان المتشابه ــ أصبحت الخطاب «السائد-الجامع»، بحيث انتفت الحاجة إلى غيرها من القضايا، ومن يمكنه أن يكون محلّ تقاطع لمثل هذه السلوكيات هو من يمتلك الخطاب الأكثر تزمتاً ورجعية.
إننا اليوم، كمثل من يشاهد فيلماً سينمائياً لمجموعات بربرية من التاريخ الغابر تتقاتل، وهي على خيولها ببدلات أنيقة وربطات عنق وتسريحات شعر، حول ملكية أبراج في دبي أو سنغافورة أو نيويورك أو باريس. إنها «فانتازيا» تاريخية ذات عناصر وأناس يعيشون في القرن الواحد والعشرين: المخرج معروف والممثلون أيضاً، لكن العبرة من الفيلم متحرّكة، أي أنها تتغير وفق المشاهد، فيما السيناريو مشوّه، فلا هو قديم ولا هو حديث بل هجين؛ إنه خليط بين أناقة القرن الواحد والعشرين وهمجية عصور ما قبل التاريخ. إنّ هذا الواقع المضطرب المسيطر حالياً، ما هو إلّا نتيجة طبيعية لغياب القضايا والمشاريع السياسية الواضحة المرتبطة بالهمّ الاجتماعي والطبقي، والغياب القسري للقوى الحية في المجتمع التي يمكنها، وحدها، أن تحمل تبعات السير في مثل تلك الهموم. إنها قضية إرادات وأخلاق وسلوك ومثابرة وتضحية وتفانٍ وخيارات سياسية؛ فهل لا يزال الخصم ملتبساً؟ من دون شك كلا: هي الإمبريالية الأميركية وعدتها من رأسمال وأتباع، باتجاههم فلتصوّب البوصلة فقط، وعلينا ألّا نضيع الاتجاه في الحَوَل السياسي.
«اضربوا رأس الأفعى»، هو مثلٌ متوارث: الرأس هو الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها ومشاريعها. الذيل هو الأدوات التابعة لها، من نُظُمٍ وهيئات ومؤسسات... قطع الذيل لا يُضر بالرأس، أمّا العكس فجوابه واضح لا لبْسَ فيه!
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/03/03