إدلب: يدُ «الجهاديّين» على الحزام!
صهيب عنجريني
لا يلقي «الجهاديون» بالاً كثيراً لاتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم أخيراً في شأن إدلب. تتالت مواقف التنظيمات الرافضة للاتفاق، مع مواصلتها الاستعداد والتحشيد، لجولة جديدة محتملة من القتال. وانطلقت وراء الكواليس جهود تنسيقية مكثّفة، بين مختلف الجماعات، بهدف خوض المعارك القادمة «صفّاً واحداً»
«لا تنادوا بالسلام، إنّما السلم كلام. إنما السلمُ خداع، فاستفيقوا يا نيام». كانت هذه الجملة «بيت القصيد» في إصدار مرئي جديد نشرته «غرفة عمليّات وحرّض المؤمنين» أمس. تضم الغرفة المذكورة عدداً من التنظيمات «الجهادية» العاملة في سوريا (تحديداً في إدلب)، وهي «تنظيم حرّاس الدين»، و«جبهة أنصار الدين»، و«جماعة أنصار التوحيد»، و«جماعة أنصار الإسلام». حمل الشريط عنواناً لافتاً، هو «هدم الأسوار». وكما هو معروف، فقد سبق استخدام العنوان نفسه من قبل تنظيم «داعش» المتطرف، الذي أطلقه على سلسلة عمليات كانت عنوان مرحلة فارقة من مراحل صعود التنظيم.
يصعب الجزم بأن اختيار تكرار العنوان مقصود، لكن احتمال المصادفة لا يبدو وارداً، في ظل شهرة «هدم الأسوار» الخاص بـ«داعش» ورمزيته الماثلة في الأذهان. وليس من المستبعد أن ينطوي الأمر على محاولة لاستمالة بقايا التنظيم في سوريا، أو إرضاءً لبعضهم، ممن نجحوا في الوصول إلى إدلب، وانضووا بالفعل تحت راية «حراس الدين». تضمّن الشريط الجديد لقطات تم تصويرها السبت الماضي، أي في اليوم التالي لسريان وقف إطلاق النار المفترض، ويظهر فيها مقاتلون تابعون لـ«غرفة عمليات وحرّض المؤمنين»، يطلقون صواريخ، ويؤكّدون عدم التزامهم باتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم أخيراً، بين موسكو وأنقرة. ولم يمنع قصر مدة الشريط (خمس دقائق) احتواءه رسائل بالغة الدلالات، من بينها تنوّع لغات المقاتلين المتحدّثين، ما بين العربيّة (بلهجة سورية)، والإنكليزية، والقوقازية.
ورغم أهميّته منفرداً، فإنّ الشريط المصوّر يكتسب أهميّة مضاعفة بفعل كونه مجرّد حلقة في سلسلة مواقف «جهادية» رافضة للاتفاقات حول إدلب، من أبرزها بيان صدر عن «هيئة تحرير الشام/ النصرة»، ووسم بعنوان «اتفاقيّة موسكو.. سراب جديد»، وكلمة صوتيّة بعنوان «يا أهل الشام الثبات الثبات» لأبو همام الشامي، زعيم تنظيم «حرّاس الدين»، الفرع السوري لتنظيم «القاعدة». وتشارك التنظيمان المتطرّفان المذكوران موقفاً واحداً من «اتفاق موسكو»، رغم التباين في كثير من المواقف بينهما، ورغم علاقتهما المضطربة التي وصلت حدّ الاحتراب في بعض المراحل. ولكن كان من بين الاختلافات المتوقعة بين الموقفين، انفراد «هيئة تحرير الشام» بشكر أنقرة على «وقوفها الواضح والداعم للثورة»، الأمر الذي قابله في كلمة الشامي تحذير من «هيمنة الداعمين على إرادة المجاهدين». جاء مضمون شريط «هدم الأسوار» مشابهاً لمضمون كلمة أبو همام الشامي في ما يتعلّق بـ«الداعمين» (وهو أمر طبيعي لأن الشامي يتزعّم أكبر مكوّنات الجهة التي صدر عنها الشريط). وذهب المقاتلون الظاهرون في الشريط أبعد من زعيمهم، عبر تصعيد لهجة الخطاب الموجّه إلى أنقرة، ولكن من دون تسميتها. يقول أحد المتحدثين بالإنكليزية، موجهاً الكلام إلى «إخوانه في كل أنحاء العالم»، إن «بعض الحكومات تتظاهر بأنها صديقة للسوريين، لكنها لا تريد إلا القضاء على الحركات الجهادية، كل ما يفعلونه مصالحهم الوطنية لا غير».
«القاعدة» سبق الاتفاق!
ثمّة تفصيل شديد الأهميّة في ما يتعلّق بمواقف التنظيمات المتطرفة من «اتفاق موسكو»، وهو أن تنظيم «القاعدة» كان قد استبق الاتفاق بدعوة «المجاهدين» إلى توحيد مواقفهم و«رص صفوفهم». في مطلع الشهر الجاري، دعا التنظيم «مجاهدي الشام» إلى «رفض التفاهمات الدولية»، و«نبذ الخلافات» في ما بينهم. جاء ذلك في الإصدار الرقم 32 من نشرة «النفير» الدورية التي تصدرها «مؤسسة السحاب الإعلامية»، مصحوباً بتحريض «الجهاديين» على شنّ حرب استنزاف طويلة الأمد. والواقع أن كلمة أبو همام الشامي، جاءت أشبه بإعلان التزام سريع بتوجيهات «القاعدة» الأم، وقد تمّ تسجيلها على الأرجح قبل إبرام «اتفاق موسكو»، إذ أعلن التنظيم عنها قبل ثلاثة أيام من الاتفاق، ثم أرجأ نشرها إلى ما بعد إبرامه، لتكون بمثابة موقف رسمي. ولم تقتصر استجابة الشامي لتوجيهات «قيادته» على الكلمة المسجلة، بل اشتملت أيضاً على إطلاق «حملة تبرعات» تسعى إلى جمع أموال، لتمويل جولة جديدة من المعارك، من المقرّر أن تأخذ شكل «حرب عصابات». ويعاني «حراس الدين» من صعوبات مالية، في ظل عدم ثبات التمويلات التي يتلقّاها، خلافاً لحال «تحرير الشام» القادرة على تمويل نفسها عبر موارد عديدة، فضلاً عن أن التمويلات السياسية لم تنقطع، ولو خفّت وتيرتها. ورغم الخلافات بينهما، فقد دأبت «هيئة تحرير الشام» على إمداد «حراس الدين» بأسلحة وأموال، بين وقت وآخر، تبعاً لطبيعة المرحلة.
«جهاديو فرنسا» حاضرون
لم يلتقط «الجهاديون» الفرنسيون الحاضرون في إدلب أنفاسهم بعد. ورغم توقّف المعارك في الأيام الأخيرة، فإنّ عناصر «فرقة غرباء» لم يأخذوا فترة استراحة، بل انهمكوا في الاستعداد لجولة ثانية، لا تبدو بعيدة. تشكّل الكتيبة المذكورة إطاراً تنظيمياً حاضناً لمعظم «الجهاديين» الفرنسيين المتبقّين في سوريا، وقد سُجلت أنشطة قتالية لها بالتنسيق والتعاون مع «جبهة النصرة» في العام 2016، ثم مع «الحزب الإسلامي التركستاني» في معارك إدلب قبل عامين (راجع «الأخبار» 23 أيار). وتكرّرت مشاركة «الفرقة» في معارك إدلب الأخيرة، لكن هذه المرّة بالتنسيق والتعاون مع «حراس الدين». ويعود سبب تغيير التحالفات إلى خلافات استفحلت بين متزعّم «غرباء»، عمر أومسين، و«هيئة تحرير الشام» قبل عامين. (راجع «الأخبار»، 26 تشرين الثاني) .
«القاعدة» كان قد استبق «اتفاق موسكو» بدعوة «المجاهدين» إلى «رصّ صفوفهم»
ونشرت قناة «فرانس 24» قبل أيام تقريراً لافتاً، يسلط الضوء على مشاركة الفرقة في المعارك. ويجدر التذكير بأن العنصر «الجهادي» الأوروبي يشكّل عاملاً شديد الأهمّية في مواقف دول الاتحاد من معارك إدلب، إذ باتت المنطقة ملاذاً أخيراً لـ«الجهاديين» الأوروبيين بمختلف جنسياتهم. ويبدو تسرّب هؤلاء إلى دولهم الأم أكبر الهواجس الأوروبية، وهو أمر تعيه أنقرة جيداً، وما فتئت تلوّح به بين سطور تهديداتها المستمرة بفتح الحدود أمام اللاجئين. وحتى اليوم، لم يصل الأوروبيون (ولا سيّما الفرنسيّون) إلى خاتمة «معقولة» لملف «الجهاديين» الأوروبيين الذين كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» أو عائلاتهم. وما زالت أعداد كبيرة من هؤلاء تقبع في «مخيّمات» شرقي الفرات في مناطق نفوذ «قسد».
والأوزبك... والألبان
شاركت «كتيبة الإمام البخاري» بفاعلية في معارك إدلب الأخيرة، وتحديداً معارك مدينة سراقب. وتقول مصادر «جهادية» حاضرة في إدلب إن عدداً من قادة «البخاري» عقدوا اجتماعات منفصلة في الأيام الأخيرة مع قادة مجموعات مختلفة، من بينها «تحرير الشام»، و«حراس الدين». تعدّ المجموعة المذكورة واحدة من أشرس المجموعات «الجهادية» في سوريا، وكانت قد بايعت «جبهة النصرة» حين كانت الأخيرة فرعاً لتنظيم «القاعدة» (راجع «الأخبار» 1 تشرين الأول 2015). بدأت «البخاري» العمل منفردة، عقب فك «النصرة» ارتباطها التنظيمي بـ«القاعدة»، وكان هذا على الأرجح أحد الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى إدراج الكتيبة على لوائح الإرهاب. وكانت «البخاري» واحدة من المجموعات «الجهادية» القليلة التي أعلنت موقفاً واضحاً من الاتفاق الذي عقدته «حركة طالبان» مع واشنطن أخيراً. وأرسل أبو يوسف المهاجر، زعيم الجماعة، رسالة تهنئة إلى «طالبان» بتاريخ 29 شباط الماضي، عدّ فيه الاتفاق «نصراً للجهاد». كما كانت «الكتيبة» قد ربطت نفسها بـ«بيعة» علنية لـ«إمارة أفغانستان الإسلامية» في العام 2018، فيما بدأت بتوريد بعض «الجهاديين» عكسيّاً، من سوريا إلى أفغانستان عام 2016، حين استحدثت فرعاً لها هناك. ومنذ العام الماضي، سجّلت «البخاري» تنسيقاً عالي المستوى مع جماعة «جهادية» أوروبية مستحدثة في سوريا، هي «جماعة الألبان» التي باتت رأس حربة «الجهاد» الأوروبي في سوريا. لم ينخرط «الألبان» في معارك إدلب الأخيرة، بسبب تمركزهم في ريف اللاذقية الشمالي، معقلهم الأبرز (راجع «الأخبار» 25 أيلول 2019) . رغم ذلك، تفيد معلومات موثوقة بأنّ «جماعة الألبان» كانت في «استنفار» مفتوح طوال فترة المعارك، ولم تنهه حتى اليوم.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/03/10