«المحنة العربية الثانية» بعد فلسطين... أكثر فتكاً
د. وفيق إبراهيم
الكيانات السياسية العربية في وضع مأسوي، لأنّ الأسباب التي تأسّست عليها في النصف الأول من القرن العشرين، بدأت تفقد أهميّاتها الاستراتيجية، وهذا يُنذر باهتزاز كبير في ضرورات استمرارها. هناك ثلاثة أسباب متفرّقة، أدت إلى تأسيس معظم الكيانات العربية، منها ما يرقى إلى تاريخية بعض المناطق، التي عجز الغرب الاستعماري أي المؤسس الفعلي لهذه الكيانات عن تجاهلها، مثل مصر وسوريا والعراق. لكنه لم يدّخر وسيلة لتقسيمها كسوريا، بحرمانها من شرفاتها البحرية، والعراق بحرمانه من ينابيع أنهاره، فأصبح دولة داخلية ضعيفة.
أما السبب الثاني، فهو حاجة الغرب الفرنسي البريطاني المستعمر للمنطقة العربية في ذلك الوقت، إلى دول تؤدي «خدمات سياسية» ذات طابع استراتيجي، على منوال البحرين والأردن ولبنان. فالبحرين مركز مراقبة، بدأ إنكليزي التأسيس لرصد الحركة البحرية في الخليج وحماية أكبر بئر نفطية في العالم، هو السعودية. فيما خدم تأسيس الأردن الهاشمي باقتطاعه من سوريا، إلغاء التواصل بين دمشق وجزيرة العرب، مسهّلاً في الوقت نفسه الاستيلاء اليهودي على فلسطين. ولا يزال الأردن حتى اليوم، يؤدي دور الحاجز المنفّذ للسياسة الأميركية وريثة الاستعمار البريطاني. أما لجهة لبنان، فتؤدي فبركته، لدور الملتهم لبعض قوة سوريا، وساحة تستوعب المعارضات العربية، وكان الفرنسيون أيضاً يعتقدون أنّه الرافد الفعلي لحلفٍ مع إسرائيل، في وجه سوريا والفلسطينيين.
لذلك، ينتسب هذا النوع من الدول إلى بلدان قطاع الخدمات، التي تؤدي أدواراً في السياحة والترانزيت والمصارف والخدمات السياسية على أنواعها، وتتلقّى مساعدات من الغرب والدول النفطية العربية. لكنّ محنة العرب الجديدة لا تكتمل إلا بالنكبة، التي بدأت ترتدّ بشكل عنيف على الدول المنتجة للنفط، من الكويت إلى السعودية والإمارات وقطر وعمان والجزائر.
قد يرى البعض أنها دولٌ بإمكانها احتمال عقدٍ كاملٍ من تراجع أسعار النفط، لأنّ لديها احتياطات مالية هائلة توظّفها في المؤسّسات الأميركية. والإجابة على هذه الاعتقادات أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأسلوبه الاحتقاري، بتأكيده أنّ بلاده ترحّب بشحنات النفط السعودي من دون ثمن. وقال إنّ الأميركيين دفعوا بتدخلاتهم العسكرية لحماية ما زعم أنهم أصدقاؤهم في الشرق الأوسط، نحو خمسة تريليونات دولار، معتبراً أنّ هذا الأمر كان خطأً جسيماً ويجري العمل على تصحيحه، الأمر الذي يؤكد أنّ الاحتياطات الخليجية في مصارف الغرب ومؤسسات الدولة الأميركية، هي في مهبّ الريح الترامبية.
لذلك، يجب التنبّه إلى أنّ التطوّرات الحالية في أسواق النفط، ليست وليدة تبدّل مرحلي في أسعاره، كما كان يحدث سابقاً حين كان ينخفض ويرتفع وفقاً للعرض والطلب، مع شيء من الضغط السياسي. أما اليوم، فقد جاء تراجعه إلى ما دون كلفة استخراجه الذي يعود إلى سياسات ترامب الهوجاء، وارتدادات جائحة «كورونا» التي شلّت العالم بأسره سياسياً واقتصادياً، وأوقفت الاقتصاد على مستوى الاستهلاك والتبادل، بمعدّلات تصل إلى ثمانين في المئة. لكنّ المشكلة ليست هنا، لأنّ بإمكان الدول تحمّل مرحلة الذروة في انتشار «كورونا»، والعودة إلى التفاعلات الإنسانية الكبرى بعد ابتكار لقاحات مفيدة له. المشكلة في تداعيات هذه الجائحة، التي تسبّبت بخسائر كبيرة للدول، وتتّجه إلى إلغاء نظام الانفتاحات الكبيرة بينها، كنتيجة لنظام العولمة الذي أحكم الربط بين كلّ زوايا الأرض، وفتحها على بعضها، من دون الحدّ الأدنى من المعوّقات ذات الطابع الوطني والجمركي والاستراتيجي.
تنتظر المنطقة العربية المغلوب على أمرها شكل النظام العالمي الجديد وما يريده منها في مراحل اكتشاف الطاقات
لكن «كورونا» يدفع في مراحل لاحقة باتجاه خفض الإنتاجات العالمية إلى ما يزيد عن خمسين في المئة، نتيجة للخسائر التي منيت بها البلدان. وهذا له ترجمة وحيدة وهي التراجع الاقتصادي الموازي بمعدلات أكبر في النفط والغاز، إلى جانب السقوط المؤكد للنظام العالمي الأحادي القطب الذي يسيطر الأميركيون، لمصلحة ولادة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب يلي بكل تأكيد صراعاً أميركياً ــــ صينياً ــــ روسياً حاداً، لن ينتهي إلا بعد توترات اقتصادية وعسكرية في أكثر من موقع على سطح الأرض.
ما هي تداعيات هذا السيناريو على الدول العربية؟ إنّه خطير جداً. وبموجب التحليل الفعلي، فإذا كانت دول أوروبا وتركيا وإيران وغيرها بوسعها الاستمرار، فهذا سببه تنوّع إنتاجها وإمكاناتها الصناعية وعدم اعتمادها على النفط والغاز. فحتى روسيا لا تتّكل في موازناتها على هذا الوقود الأحفوري، إلا بمعدل لا يصل إلى ثلاثين في المئة، ولديها في باطن أراضيها ما يزيد عن ثلاثين في المئة من ثروات الأرض المعدنية.
إيران، بدورها، أسّست نظاماً إنتاجياً يعتمد على التصنيع الداخلي لمعظم استهلاكها، ونتيجة للحصار الأميركي الغربي عليها، اعتادت على التقشّف الاستهلاكي والإنتاج الداخلي.
أما الاستثناء، فموجود عند دول النفط العربي، التي تعتمد على النفط بمعدّلات تراوح بين السبعين والتسعين في المئة، بما يعني أنّ خسارتها المتوقّعة لستين في المئة من إنتاجها، يؤدي إلى سقوطها وعجزها عن تلبية الوظائف المطلوبة منها. وهنا نتحدّث عن تلبية الداخل، وتلبية ما يطلبه منها مؤسّسوها في صراعاتهم الدولية، وتسديد مكرمات ومساعدات للدول العربية الموالية لها في قطاع الخدمات. السعودية مثلاً، تعتمد على سبعين في المئة من موازناتها على بيع النفط، وخمس وعشرين في المئة على مواسم الحج والعمرة والسياحة الدينية. هذه هي الصورة التي كانت سائدة قبل خمسة أشهر فقط، أمّا الآن، فإنّ مرحلة ما بعد «كورونا» لن تعيد إحياء النشاطات الدينية إلا بمعدّلات بسيطة جداً، بسبب التفشّي الهائل للفقر، وخصوصاً في العالم الإسلامي. كذلك، فإنّ النفط ذاهب إلى انهيارات دراماتيكية، فهل تستطيع مملكة آل سعود، وقطر، والإمارات والكويت وعمان، وحتى الجزائر، الاستمرار والصمود؟ هذا بالإضافة إلى تداعيات هذا التراجع على البحرين والأردن ولبنان، ومجمل الدول المعتمدة على قطاع الخدمات السياسية خصوصاً.
ولا يستثني ذلك، البلدان التاريخية العربية، وخصوصاً مصر المطوّقة بين التراجع الحتمي للمساعدات والقروض التي تردها من الأميركيين والخليجيين، وبين سدّ النهضة الإثيوبي الذي يهدّد استقرارها الزراعي، إلى حدود تقليصه إلى معدلات كبيرة. فكيف يمكن لمصر الاستمرار، وسط انحسار الزراعة فيها ووقف المساعدات، في بلد يعتمد على هذيان الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومباركة الإفتاء الأزهري لأعماله المذكورة في خطاباته فقط، وليس على الأرض المصرية؟
كذلك، فإنّ العراق الذي يعتمد على النفط وسط تراجع هائل في بناه الإنتاجية، بسبب حالة الفوضى التي أفقرته منذ الاحتلال الأميركي له في عام 2003 وحتى الآن. وهذا البلد مهدّد، اليوم، كما دول الخليج، بسبب تراجع أسعار النفط، على الرغم من امتلاكه مساحات زراعية واسعة لا يزرعها، ومواقع إنتاجية متوقّفة أو مدمّرة، بينما يتعايش مع صراعات دولية وإقليمية وداخلية قد تدفع به نحو تقسيم فعلي. أليست هذه الصورة أقسى من نكبة فلسطين؟
اللافت هنا، عدم وجود استثناء واحد بين دول العرب، بوسعه الصمود في مرحلة ما بعد «كورونا»، بما يدفع إلى الاستنتاج بأنّ مرحلة «سايس ــــ بيكو» التي أدّت في مطلع القرن الماضي، إلى تأسيس كامل الكيانات السياسية العربية استنفدت أهدافها. بما يعني أن المنطقة العربية المغلوب على أمرها، تنتظر بانصياعٍ شكل النظام العالمي الجديد، وما يريده هذا النظام منها في مراحل اكتشاف الطاقات الجديدة، من الغاز والشمس والريح واليورانيوم ونفط رخيص، للزوم البلدان الفقيرة.
فهل بوسع الدول العربية مقاومة هذا القدر؟ لم تنجح مقاوماتها في حماية فلسطين، بسبب تفرّقها وسياساتها الانصياعية لمؤيدي إسرائيل. ولن تنجح اليوم إلا في الاستمرار في سياسة إغراء الغرب والدول القطبية الجديدة، بما يملكونه من غاز وشمس وطاقات من اليورانيوم للاستمرار. لكن عصر انفجار هذه الكيانات العربية يصبح رهن واحد من أمرين: انتفاء قدرتها على خدمة النظام الدولي الجديد، أو صحوة شعبية تضع حداً لأنظمة تبدّد الثروات العربية منذ قرن تقريباً.
جريدة الاخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/05/05