سبق السيف العدل على إلغاء الاتفاقيات مع الصهاينة
د. عبد الستار قاسم
لم تكن مسألة التراجع عن الاتفاقيات مع الصهاينة بحاجة إلى فيض من الذكاء. كان الأمر متعلقا بالإدراك الحسي البسيط منذ أن بدأت السلطة نشاطها في غزة وأريحا. وكانت الصورة جلية جدا وساطعة في محادثات اتفاقيتي طابا والخليل عامي 1995 و1997. لكن يبدو أن هجران السجادة الحمراء والسيطرة لم يكن سهلا.
السلطة تهدد بإلغاء الاتفاقيات مع الصهاينة، إذا نفذوا ضم مناطق من الضفة الغربية وهذا قد يحصل على الرغم من شكوكي الكبيرة بهذا الأمر. الاتفاقيات مع الصهاينة والالتزام بها تشكل مبرر وجود السلطة الفلسطينية، وإذا كانت السلطة ستخرج من مبرر وجودها فإن أشخاصا كثر سيفقدون الكثير من ركائز مصالحهم. سبق لرئيس السلطة الفلسطينية غير الشرعي أن هدد بعدم الالتزام بالاتفاقيات ما دام الكيان الصهيوني لا يلتزم. لكن تهديده لم يكن سوى غبار إعلامي.
على كل حال، الخروج من الاتفاقيات الآن أو البقاء ضمنها لا يغير من الأوضاع الفلسطينية شيئا. في كل الأحوال، تعرض الشعب الفلسطيني لمؤامرة ضخمة لم يكن فلسطينيون خارجها. عبر سنوات أوسلو المشؤوم، مكنت السلطة الفلسطينية الاحتلال الصهيوني من رقابنا اقتصاديا وغذائيا وسياسيا وأمنيا وثقافيا، وجعلت من الهموم الشخصية أولوية على الهم الوطني، وتراجع الوعي الوطني والثقافة الوطنية. لقد خسرنا الكثير على مدى سنوات أوسلو، وخسرنا الذات الوطنية إلى حد كبير. وقد سبق للصهاينة والأمريكيين أن اختبروا إرادتنا في الفترة القصيرة السابقة. نقل الأمريكيون سفارتهم إلى القدس، ولم نصنع نحن سوى بيانات وتصريحات الشجب والاستنكار. واعترف الأمريكيون بحق الصهاينة في الاستيطان بالضفة الغربية، ونحن لم نصنع إلا ذات البيانات التي تحولت مع الزمن إلى رسائل طمأنة للأعداء بأن عملا حقيقيا لن يتبع الثرثرة الكلامية. وترامب نفسه عبر عن هذا الأمر عندما قال إنه تم تحذيره من نقل السفارة إلى القدس لما في ذلك من مغامرة قد تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار. وأضاف بأنه نقل السفارة ولم يحصل شيء ذو اعتبار.
والسؤال المطروح على الطاولة دائما: ما هي الخطط التي أعدها الفلسطينيون لمواجهة الاعتداءات الصهيونية والأمريكية المتواصلة عليهم. فعلى فرض أنه تم إلغاء الاتفاقيات مع الصهاينة، فماذا بعد؟ هل أعددنا خططا بديلة؟ هل الشعب وطاقاته محتشدة بصورة محكمة تمكنها من مواجهة التحديات؟ هل هناك تنسيق مسبق مع قوى في المنطقة يمكن أن تعزز من قدرات الفلسطينيين على الاستمرار في مواجهة ما؟ أين التدبير الاقتصادي الذي صنعناه لنكون قادرين على إطعام أطفالنا؟ أين بدائل الاتفاقيات، وما هو المطلوب من الشعب لكي يكون قادرا على مواجهة فعالة؟ وهل انتهت الانقسامات الفلسطينية السياسية والاجتماعية لنتمكن من لمّ شمل جهودنا وتوحيدها؟
نحن لم نوظف جهدا لتهيئة الأجواء الفلسطينية الداخلية لمواجهة الظروف السوداء، ولم نوفر جهدا في إضعاف أنفسنا. لم يتم تطوير خطط أو استراتيجيات أو رؤى أو برامج لتوليد بيئة وطنية جديدة تستقطب الجميع كمساهمين في بنائها. فقط نفر قليل جدا في رام الله ظنوا أنهم عباقرة الزمان والمكان، وتركوا الساحة “منفلشة” غير مهيأة لتكون مصدر خوف ورعب للأعداء.
يتطلب إلغاء الاتفاقيات تحضير برامج مسبقة، وتوفير الآليات والوسائل والأساليب التي يمكن اتباعها لتحقيق نتائج إيجابية، أو لتشكيل موضع ردع يمكن أن يزجر العدو. أما والحال على ما هو عليه الآن من اعتداء على حقوق الناس، وغياب الشرعية وتمزق الهوية والانفراط الاجتماعي والضعف الاقتصادي والمالي وتراجع الثقافة الوطنية فإنه من الصعب أن نرى نورا في نهاية النفق.
وعلى كل حال، أن تبدأ متأخرا أفضل من ألا تبدأ ابدا. علينا أن نغير ما نحن فيه، وعلى القيادات التي قادت الفشل تلو الفشل أن تختفي، وعلى الذين بقوا صامدين أن يترجلوا. القضية الفلسطينية برمتها في خطر، ولا مجال هناك للمجاملات والمهاترات والانقسامات.
قناعتي أن الصهاينة لن يتمكنوا من تصفية القضية الفلسطينية بسبب وضعها التاريخي والعالمي، وكيانهم لن يواكبه العمر الطويل. لكن سواعدنا فقط هي التي تدير عجلة التاريخ بالاتجاه الذي نريد. وإذا كان لنا أن نقف وقفة شجاعة خارج الاتفاقيات المذلة فإن قوى عدة في المنطقة ستساندنا وتسير معنا حتى يبدو النور في نهاية النفق ساطعا.
صحيفةرأي اليوم
أضيف بتاريخ :2020/05/20