جبهتان لا بد من تفعيلهما
علي محمد فخرو
ما نعرضه اليوم ليس تلهيا أكاديميا عبثيا، إنه في قلب المشهد العربي الذي نعيشه الآن. في غياب القطر العربي المهيأ اقتصاديا وعسكريا وشعبيا، والتزاما بحمل تبعات قيادة النظام العربي، واعترافا دوليا بإمكانياته المادية والمعنوية المتميزة في الإقليم العربي وفي المسرح الدولي، يبدو منطقيا التساؤل عن البديل.
ضمن معطيات الواقع العربي المملوء بالصراعات بين الأنظمة الحاكمة العربية، وبنجاح القوى الخارجية، باختراق النظام العربي برمته، والهيمنة على مقدراته وإرادته، وبإغواء أجزاء كبيرة من المجتمعات المدنية العربية، بالانخراط في مماحكات طائفية وقبلية بليدة، أو بالانخراط في عنف ديني إرهابي إجرامي، ليس أمامنا إلا إصلاح وتطوير وتفعيل جهتين قابلتين لتحقيق خطوات أولية نحو بناء مستقبل عربي أفضل. الجهة الأولى هي الجامعة العربية، والجهة الثانية هي القوى النضالية الديمقراطية المدنية العربية.
أما الجامعة العربية فقد بدأ قيامها بروح بروتوكول الإسكندرية عام 1944، الذي شدد على أن قيام الجامعة هو استجابة لآمال الشعب العربي في الوحدة، وبالتالي إعطاء أولوية قصوى للاتجاه القومي. وكمثال على ذلك أورد البروتوكول أنه لا يجوز تحت أي ظروف إتباع أي قطر عربي سياسة خارجية تضر بسياسة الجامعة العربية، أو أي من أعضائها. لكن ما أن مرّ عام على ذلك، حتى حل ميثاق الجامعة الحالي محل البروتوكول، وشدد على إعطاء استقلال الدول الأعضاء وسيادتها مكانة شبه مقدسة، في تركيبة الجامعة وفعلها. وقد أدت تلك الخطوة، وحتى يومنا هذا، إلى تهميش دور الجامعة في النظام العربي، وفي منعها من اتخاذ مبادرات وحدوية، وفي جعلها تابعة لأهواء هذه الدولة العربية، أو تلك المجموعة من الدول، بدلا من كونها حكما وملجأ وقائدا في الحياة العربية. وقد جرت عدة محاولات لتعديل الميثاق وإصلاح نقاط ضعفه، لكن جرى تجميد تلك المحاولات جميعها، بفعل روح وعقلية وأنانية القطرية، وتراجع روح وعقلية التضامن والعمل الوحدوي العربي القومي، وهو بالضبط ما أرادته القوى الاستعمارية والصهيونية، من أجل إيصال الوطن العربي برمته إلى الحالة المزرية الضعيفة التي يعيشها حاليا. قضية إصلاح الجامعة في جوانب أخرى كثيرة هي واسعة ومعقدة ومتداخلة، ولكنها قضية وجودية في المرحلة الحالية، إلى حين مجيء الوقت لطرح بدائل إنقاذية كثيرة أخرى بالغة الأهمية لمواجهة فضيحة التخلف العربي الحضاري. إنها قضية وجودية لإنقاذ النظام العربي الرسمي على مستوى السياسة والاقتصاد والأمن على الأخص، ذلك أن الأمل في قيام نظام عربي رسمي بمبادرة إنقاذية قد تلاشى بعد إنهاك وتدمير أهم الأقطار العربية. أما القوى النضالية المدنية الوحدوية، فإنها هي الأخرى بحاجة إلى إجراء معالجات وإصلاحات فكرية وتنظيمية جذرية، قبل أن تعود لتلعب أدوارها التاريخية المطلوبة. وإلى حين يتم ذلك فالأمل الوحيد هو خروج الطلائع الشبابية العربية بأسرع ما يمكن مما أصابها من تنكيل وتمزيق وسجن، على يد القوى الكارهة والرافضة لكل الشعارات التي طرحتها حراكات الربيع العربية الجماهيرية.
المتتبع لما يتداوله الشباب العربي، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يرى أن جذوة الرغبة في التغييرات العربية الكبرى لاتزال موجودة
بناء الزخم الشبابي النضالي، الواعي بأهمية التضامن العربي الوحدوي، ليس بالأمر المستحيل. وهو يحتاج إلى من يطرحه ويباشر بتنظيمه النضالي السلمي الديمقراطي في الكثير من الساحات الحقوقية والقانونية والمعيشية، عبر الوطن العربي كله. وإذا كان هذا الأمل قد اصبح في حالة السكون والكمون مؤخرا، فذلك بسبب وباء كورونا، الذي اجتاح العالم كله. والمتتبع لما يتداوله الملايين من الشباب العربي، في الوطن العربي كله، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يستطيع أن يرى أن جذوة الرغبة في التغييرات العربية الكبرى لاتزال موجودة، بل في تصاعد مستمر.
المهم في الأمر كله أن نجذر في الأوساط الشبابية العربية الوعي المتوازن، بالأهمية القصوى لأن تكون الحراكات في كل قطر متناغمة، وجزءا من تيار تضامني وحدوي عربي جماهيري مماثل في روحه وتطلعاته للأجواء التي سادت الوطن العربي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وقادت إلى إقناع رؤساء الدول القطرية العربية آنذاك بأهمية قيام نظام عربي مشترك، تكون الجامعة العربية في قلبه وخطوة أولى نحو نوع من توحيد هذه الأمة. ثلاثة أرباع القرن مرّ على كل ذلك، من دون أن يتحقق شيء ملموس، لكن تاريخ الأمم لا يقاس بالسنين وإنما بالمنجزات. والمنجزات ممكنة ومؤكدة إذا توافرت الإرادة السياسية عند قوى المجتمعات.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/05/21