شخصية الرئيس الأميركي وتأثيرها في السّياسات الدولية
شارل أبي نادر
يتأثّر العالم الخارجي بشكل مباشر بهوية الرئيس الأميركي وشخصيته ومنهجية عمله وبرنامجه أكثر من تأثر الداخل الأميركي بها.
مع اقتراب اليوم الفاصل في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة (الثلاثاء في 3 تشرين الثاني/أكتوبر)، يترقّب العالم هذا الاستحقاق بكثير من الاهتمام والحذر والخشية، تفوق بأضعاف كيفيّة ترقب الداخل الأميركي لهذا الاستحقاق، والسبب ليس عدم اهتمام الأميركيين بهذا الاستحقاق "الديموقراطي" الذي طبع تاريخ الولايات المتحدة الأميركية بطابعه الدستوري الثابت، بل لأنَّ العالم الخارجي يتأثّر بشكل مباشر بهوية الرئيس الأميركي وشخصيته ومنهجية عمله وبرنامجه أكثر من تأثر الداخل الأميركي بها، إذ إنّ الداخل، وبشكل عام - مع بعض الاستثناءات المتعلقة بالضرائب، أو بالإجراءات التي تفرضها أو تقوم بها السلطة المركزية - تحميه وتبعده عن تأثيرات سياسة الرئيس وشخصيته صلاحياتُ حكام الولايات (52) الأميركية الداخلية ومسؤولياتُهم وإمكانياتُهم.
في الواقع، وبمعزل عن أهمية الانتخابات الأميركية، لكونها انتخابات رئاسية لدولة عظمى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ولها تأثيرها الفاعل في العالم، إضافة إلى نفوذ واسع وهيمنة وتسلط على أغلب المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي وحتى مجلس الأمن، يبقى هناك عاملان أساسيان يمكن مقاربتهما عند كل دراسة أو متابعة لتأثير شخصية الرئيس الأميركي القادم - إذا فاز الرئيس الحالي دونالد ترامب أو منافسه الديموقراطي جو بايدن - في السياسة الدولية بشكل أساسي، أو في السياسة الداخلية، وهذان العنصران هما: صلاحية الرئيس استناداً إلى النظام السياسي، وشخصية الرئيس وقدراته الإدارية والقيادية أثناء تحمّل مسؤولياته الدستورية والسياسية.
أولاً: صلاحية الرئيس بحسب النظام السياسي الأميركي
للرئيس الأميركي، بحسب الدستور، صلاحيات واسعة ترتبط تقريباً بأغلب النقاط الأساسية والضرورية لإدارة الدولة وإدارة سياستها الخارجية. يُطلق على السلطة السياسية الأميركية - بخلاف أغلب الدول الأخرى، حتى الكبرى منها - عبارة " الإدارة الأميركية". ويمكن من خلال هذه العبارة تلمس أهمية "قدرات وإمكانيات" الرئيس الشخصية في إدارة عمل هذه "المنظومة الإدارية" وقيادتها بشكل عام. ومن هذه الصلاحيات الواسعة للرئيس الأميركي، والتي منحها له الدستور الصادر في العام 1787، يمكن الإشارة إلى الأساسي منها، وهي:
على المستوى الداخلي، إن" الرئيس الأميركي هو المسؤول الأول عن السلطة التنفيذية للحكومة الاتحادية، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو من يفرض حالة الطوارئ في البلاد، ويعلن التعبئة في حالات الضرورة، إضافة إلى توليه تعيين المكتب التنفيذي المرافق له والمستشارين، أو فريق عمل إدارته، كما يتولى مسؤولية عقد وتأجيل جلسات مجلسي النواب والشيوخ في ظل الظروف الاستثنائية، ويعين الوزراء والقضاة في المحكمة العليا، شرط موافقة غالبية مجلس الشيوخ لتثبيتهم في مناصبهم، إضافة إلى صلاحية منح العفو، ووقف تنفيذ العقوبات في الجرائم المرتكبة، باستثناء القضايا المتعلقة بالإقالة بقرار قضائي".
من جهة أخرى، يملك الرئيس حقّ الاعتراض (فيتو) على نصوص القوانين التي يقرّها الكونغرس، ما عدا التعديلات الدستورية، غير أن الكونغرس يمكنه رغم ذلك تجاوز الفيتو الرئاسي، عبر التصويت بغالبية ثلثي أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، كما حصل في حالة ما يعرف بقانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" في سبتمبر/أيلول 2016، وذلك في ولاية باراك أوباما.
على المستوى الخارجي، يملك الرئيس الأميركي صلاحيات إبرام معاهدات مع الدول الأجنبية بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته، ويشارك شخصياً أو من خلال ممثليه في المفاوضات الدولية، وبالتالي يحق له الانسحاب من المعاهدات التي أبرمت قبل وصوله إلى سدة الرئاسة، شرط أن يتقيَّد بالمدة القانونية المذكورة في بنود المعاهدة، لجهة إعلامه مسبقاً الجهات الخارجية المعنية بنيته في الانسحاب.
يمكن للرئيس الأميركي إرسال قوات عسكرية إلى مناطق خارج البلاد لمدة 30 يوماً، لكن إذا أراد تمديد مهمة القوات المرسلة، فعليه الحصول على موافقة الكونغرس. ولا يملك الرئيس مبدئياً صلاحية إعلان الحرب، لأن القرار يعود إلى الكونغرس، وله الحق بالاطلاع من وكالات المخابرات الأميركية على معلومات الأمن القومي العالية السرية، والتي تشمل بعضاً من أدق الأسرار الحكومية، ومنها تفاصيل عمليات التجسّس وطرق جمع المعلومات السرية، كعمليات التنصّت المثيرة للجدل التي تقوم بها وكالة الأمن القومي.
ثانياً: شخصيّة الرئيس الأميركيّ وقدراته
لطالما شكلت شخصية الرئيس الأميركي، وخلال أغلب المحطات الأساسية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، العنصر الرئيس الذي يُبنى عليه قرار السلطة أو الإدارة الأميركية. وحيث إن صلاحياته محددة وثابتة استناداً إلى الدستور، وحيث إن هناك صعوبة كبرى في تجاوز هذه الصلاحيات، انطلاقاً من النظام الديموقراطي والقضائي الفعال، والذي لا يتهاون أبداً مع تلك التجاوزات في حال حصلت، وخصوصاً أن الدستور أيضاً يسمح بعزل الرئيس ومحاكمته إذا أُدين بجرم خيانة أو فساد أو بجرم جنائي خارج عن ممارسة مهامه، فإن شخصيته تكون العنصر المتغير الذي تتغيّر معه سياسة الإدارة الأميركية بين رئيس وآخر.
يتميز الرئيس دونالد ترامب مثلاً بشخصية غريبة شكلت خلال فترة حكمه حتى الآن نموذجاً غير متوازنٍ في إدارة الحكم. بدأ هذا النموذج، ومنذ تعيينه، بتناقض واضح بين برنامجه الانتخابي الذي وضعه أثناء معركة الترشح لانتخابات العام 2016 وممارسته لاحقاً، وبعد فترة غير بعيدة من الحكم.
وقد تجلى هذا التناقض بشكل أساسي في السياسة الخارجية، فبعد أن كان هدفه مثلاً قبل الترشح سحب جميع الوحدات العسكرية الأميركية من الخارج أو أغلبها، وخصوصاً من دول فيها مستوى مرتفع من التوتر الأمني والعسكري، مثل أفغانستان والعراق وسوريا، عاد وثبّت تلك الوحدات وزاد عديدها وقدراتها في أحيان معينة.
من ناحية أخرى، وبعد مرور فترة قصيرة على تسلّمه الحكم، بدأ الانسحاب من أغلب المعاهدات شبه الدولية التي كانت قد التزمت بها الإدارة الأميركية قبل وصوله إلى الحكم. إننا نتكلم هنا عن عدة معاهدات: المناخ، واتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، والأونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة)، والاتفاق النووي مع إيران، والصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والحد من القدرات والرؤوس النووية (ستارت الجديدة)، وغيرها من المعاهدات التجارية والثقافية.
في الواقع، يبقى للمعاهدات أو الاتفاقيات الثلاث الأخيرة (الاتفاق النووي مع إيران والحدّ من الرؤوس النووية والصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى) بعد مختلف عن المعاهدات الأخرى، حيث شكَّل انسحاب واشنطن منها، ومن دون أي مبررات صحيحة، حالة دولية دقيقة خالف بها موقف أغلب الدول الكبرى، ومنها شركاء تاريخيون له، مثل الاتحاد الأوربي.
وقد هزت مواقف ترامب هذه الحلفاءَ القدماء، وخصوصاً في تهجمه على الناتو وتهديده بالانسحاب منه، ما لم تزد دوله الأوروبية نسبة تمويلها له، إلى درجة أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت إنها شعرت بأنّ أوروبا لا يمكنها بعد الآن "الاعتماد التام" على حليفها القديم.
وقد حملت هذه الانسحابات من الاتفاقيات الثلاث المذكورة الكثير من الخطورة والحساسية، ومن إمكانية التسبب بحرب واسعة أو مواجهات عسكرية خطيرة، فضلاً عن سباق التسلح الذي عاد إلى الساحة الدولية.
النقطة الأخرى الحسّاسة التي سببتها شخصية الرئيس ترامب غير المتوازنة والمتقلّبة، هي الموقف الفاضح والوقح مع "إسرائيل" ضد الحقوق الفلسطينية والعربية. صحيح أن الرؤساء الأميركيين السابقين لم يكونوا بعيدين من دعم "إسرائيل"، ولكنَّ الرئيس ترامب وقف بمواجهة الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا في ملفات تتعلّق بتجاوز حقوق الفلسطينيين والعرب (في ملف الجولان السوري)، كانت "إسرائيل" والإدارات الأميركية السابقة قد أقرت بها سابقاً بعد اتفاق أوسلو، كوقف المستوطنات، وعدم فرض القدس عاصمة لـ"إسرائيل" قبل الاتفاق النهائي على حلّ الدولتين، وغيرها من الملفّات المشابهة.
هذا لا يعني أنَّ جو بايدن، في حال فاز، سيكون منصفاً في القضايا العربية والفلسطينية، كما أنَّ إدارة أوباما الّتي تمثّل الحزب الديموقراطي، الذي يتبع بايدن له، كانت مسؤولة عن الكثير من المآسي حول العالم، وعلى الأقل كانت مسؤوليتها عن دعم الإرهاب وخلق داعش كارثية، ولكن المرشّح بايدن صرح حتى الآن، وربما يكون ذلك من ضمن المناورة الانتخابية، بأنه سيعمل، في حال فاز، على عودة إدارته للالتزام بأغلب المعاهدات الدولية التي انسحب منها ترامب، وربما يشكل هذا الموضوع، لو صدق بايدن في حال فوزه، بعضاً من التوازن الدولي الذي فُقِد مع الرئيس الحالي ترامب.
وهكذا، صحيح أنّ هناك، كما يقال،" الدولة العميقة" في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تتألف من مكامن ثابتة، منها المخابرات والشركات القوية المؤثرة في الإدارة واللوبيات المختلفة، ومنها اللوبي الصهيوني وتأثيراته الفعالة في تلك الإدارة، ولكن تبقى شخصية الرئيس وقدراته الذاتية من أهم عناصر السلطة أو الإدارة التي توجه سياسة الولايات المتحدة الأميركية الداخلية والخارجية إلى حد كبير.
الميادي نت
أضيف بتاريخ :2020/11/01