الترقب والقلق يتواصلان في ما تبقى من رئاسة ترامب
د. سعيد الشهابي
عاش العالم الشهر الماضي على أعصابه، يانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية، بعد اربعة اعوام من التهديد والوعيد والتهريج والانقلاب على الإنسانية. ومع الاعتقاد بأن بديله لن يحوّل هذا العالم الى دوحة من الامن والاستقرار والنعيم، الا ان الجميع كان يتشبث بالرغبة في تحقق «أقل الضررين».
وقد حسمت المعركة الآن وتأكد بشكل معقول أن الديمقراطي جو بايدن سوف يستلم الرئاسة بعد بضعة أسابيع، وأن ترامب انتهى عهده بعد أن أرهق بلاده والعالم بمقولاته وسياساته. وفي ضوء ذلك انتقلت الجهود الدبلوماسية الى المناطق المختلفة من العالم. وتشهد منطقة الشرق الأوسط اتصالات دبلوماسية ولقاءات ساخنة، تحسبا لانعكاسات السياسة الأمريكية (الجديدة ـ القديمة) في المنطقة. هذه السياسة لن تختلف جوهريا عما هو مألوف منذ ثلاثين عاما عندما تدخلت الولايات المتحدة بثقلها العسكري والسياسي في المنطقة لاخراج القوات العراقية من الكويت. ويمكن القول ان تلك السياسة كانت شبه ثابتة مع تغيرات طفيفة، ولم تشهد تغيرا ملموسا نحو الأسوأ الا في السنوات الاربع من حكم ترامب. ولذلك فان خروجه من البيت الابيض سيعيد الأمور الى مسارها المعروف، باستمرار السياسات التي انتهجها الرئيس السابق، باراك اوباما. وأهم معالم تلك السياسة استمرار الالتزام الأمريكي بضمان أمن «إسرائيل» وتفوقها العسكري على العالم العربي، الضغط لوقف توسيع المستوطنات، العودة الى التفاوض مع إيران لانقاذ الاتفاق النووي الذي الغاه ترامب، رفع المنع الذي فرضه على مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، تهدئة محور اليمن، والحد من مد السعودية بالاسلحة، وربما الضغط عليها وعلى مصر والبحرين لتخفيف انتهاكات حقوق الانسان. هذه هي المعالم العامة للسياسة الأمريكية التي سيلتزم بها جو بايدن ربما مع تغيرات طفيفة. ولكن ما انعكاسات ذلك على حكومات المنطقة؟ وما مغزى تحركاتها التي تكثفت في الاسبوعين الماضيين؟
ربما كان الحدث الاهم الذي يعبر عن حالة القلق لدى هؤلاء الحكام اللقاء السري الذي عقد في 22 تشرين الثاني/نوفمبر بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان بحضور وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو. هذا اللقاء لم يعلن عن انعقاده وانما سربته بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تقول انه عقد في المنطقة التي يزمع اقامة بناء مشروع «نيوم» في الشمال الغربي من الجزيرة العربية عليها. هذه المنطقة تحولت الى بؤرة خلاف بين سكانها خصوصا بمنطقة الحويطات والحكومة التي تصر على إخلائهم من منازلهم. وقد قتل عدد من ابناء المنطقة بسبب رفضهم مغادرة منازلهم ; كان أولهم عبد الرحيم الحويطي، واعتقل عدد آخر، وما يزال التوتر يسود المنطقة.
وبرغم اصرار محمد بن سلمان على الاستمرار في مشروع «نيوم» لضمان تحقق بعض بنود «رؤية 2030» التي طرحها قبل خمسة اعوام، إلا أن حظوظه السياسية تتقلص تدريجيا خصوصا بعد اتهامه بدور في قتل الاعلامي جمال خاشقجي بطريقة بشعة داخل القنصلية السعودية باسطنبول في اكتوبر 2018.
وبرغم إصرار الأتراك على كشف كافة ذيول الجريمة ومحاكمة المتورطين فيها الا ان تدخل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بقوة لحمايته ساهم في انقاذه من السقوط، وقد اعترف ترامب نفسه بذلك. ولذلك راهنت السعودية ومعها الإمارات وحكومة البحرين على فوزه مجددا، ودعمت حملته الانتخابية.
تبدو الأسابيع القليلة قبل استلام بايدن منصبه، فترة حرجة تتضمن اعادة تموضع قوى الضغط في واشنطن في ظل التغيرات المتوقعة
وجاء سقوطه في الانتخابات مروّعا لمن راهن على فوزه بدورة ثانية على اساس استمرار نمط الانتخابات الرئاسية التي غالبا ما فاز فيها الرئيس بدورتين. ولو حدث ذلك هذه المرة لسقطت أمريكا تماما. مع ذلك فان تصويت 70 مليون شخص لترامب امر مخجل ويكشف جهلا وعصبية وسطحية لدى قطاع واسع من الأمريكيين.
فوز بايدن دفع الكثيرين للتهكن بسياسته الخارجية، خصوصا إزاء قضايا الشرق الاوسط. وليس من باب المبالغة القول ان حالة من الهلع اصبحت تسود الفريق الذي استفاد من رئاسة ترامب وفي مقدمة المنتمين لذلك الفريق قوى الثورة المضادة متمثلة بالسعودية والامارات والبحرين ومصر والكيان الإسرائيلي.
ولدى كل من السعودية و «إسرائيل» مجموعات ضغط قوية في واشنطن، واهمها اللوبي اليهودي الذي يضغط على البيت الأبيض بشكل مستمر لصالح الكيان. والسؤال هنا يدور حول ما اذا كان الشخص المرشح لوزارة الخارجية الأمريكية سيكون خاضعا للضغوط، ام انه سيسعى لتنفيذ رؤاه السياسية في المنطقة.
فالسيد انثوني بلينكن، المرشح لذلك المنصب والسيد جيك يوليفان المرشح لعضوية مجلس الامن القومي اشارا الى «تحول كبير» في السياسة الأمريكية في الشرق الاوسط، سيشمل: ضغطا كبيرا على كل من السعودية ومصر بخصوص حقوق الإنسان، اعادة الحياة للاتفاق النووي مع إيران، وضع نهاية لحرب اليمن، اعادة النظر في الصفقة العسكرية المستعجلة لتزويد الامارات بطائرات الشبح من نوع اف-50، الضغط على تركيا لوقف سياساتها التي تعتبرها واشنطن «توسعية» وممارسة المزيد من الضغوط على نتنياهو لاحياء المفاوضات مع الفلسطينيين. وسبق ان انتقد بلينكين سياسة ترامب قائلا: انه اعطى صكا مفتوحا (للسعودية) للاستمرار في سياسات كارثية من بينها الحرب في اليمن وقتل جمال خاشقجي.
الامر المؤكد ان البند الاهم في الاجتماع المذكور الذي حضره مايك بومبيو ايضا كان مرتبطا بإيران. فهناك رغبة مشتركة من السعودية و «إسرائيل» للاستمرار في حصار إيران وفرض العقوبات عليها. وكانت قوى الثورة المضادة المذكورة تأمل باستمرار ترامب في الرئاسة لكي يواصل سياساته التي اتسمت بالشراسة والاستهداف المباشر على كافة الصعدان. ويشعر الطرفان ان انتهاء عهد ترامب لن يكون لصالح سياساتهما الاقليمية، وان عليهما استخدام اقصى اساليب الضغط لفرض تغيير على اجندة الرئيس الديمقراطي بعد استلامه منصبه في 20 يناير المقبل. وقد أكد الوزير الإسرائيلي، زاتشي هانجبي عندما سئل عن هدف اجتماع «نيون» قائلا: «إن من المهم جدا تشكيل محور يعمل لعزل إيران». وفي الوقت الذي يبدو فيه اعضاء هذا المحور في حالة توتر شديدة، تواصل إيران سياساتها بهدوء، ويصدر زعماؤها تصريحات مغايرة جدا لما يطرحه محور «نيوم» فالرئيس روحاني يكرر دائما ان الجمهورية الإسلامية ترغب في توطيد العلاقات مع جيرانها وتتعاون معهم للتعاطي مع المشاكل الاقليمية المشتركة.
وهذه التأكيدات تزعج الطرف الآخر الذي يرى فيها استمرارا للسياسة الإيرانية الداعمة للفلسطينيين والمناكفة للكيان الإسرائيلي والمتناغمة مع محور اقليمي آخر يتعاظم نفوذه، ويضم كلا من تركيا وقطر مستفيدا من تراجعات دول المحور الآخر. وهكذا تبدو الأسابيع القليلة قبل استلام بايدن منصبه، فترة حرجة تتضمن اعادة تموضع قوى الضغط في واشنطن في ظل التغيرات المتوقعة. ولا تبدو هرولة بعض الدول كالإمارات والبحرين للتطبيع مع «إسرائيل» ذات جدوى كبيرة على مستوى اعادة تشكيل التوازنات الاقليمية. فقد فقدت السعودية الكثير من تأثيرها السياسي والايديولوجي نتيجة سياسات ولي عهدها، فيما وصلت الحرب في اليمن الى طريق مسدود وتحولت الى حرب استنزاف مدمرة للسعودية بشكل خاص. فالخزينة السعودية تنزف بدون توقف، ومعنويات قواتها المسلحة تتداعى بشكل تدريجي مع تصاعد الهجمات اليمنية على المنشآت النفطية السعودية وآخرها ما حدث في جدة الاسبوع الماضي. وبموازاة هذه الجهود تواصل «إسرائيل» استهدافها المرافق الحيوية الإيرانية بالتفجير تارة والاختراق الالكتروني ثانية واغتيال العلماء ثالثة، وآخرهم محسن فخري زادة، رئيس منظمة الابحاث والابداع بوزارة الدفاع يوم الجمعة الماضي. ولذلك تسعى السعودية في الوقت الضائع للتواصل مع دولة قطر التي استهدفها كل من محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ودفعها لتحالفات تتجاوز مجلس التعاون الذي دمرته سياسات محور الرياض ـ ابوظبي.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/11/30