هل يتوقّف النزيف السعودي؟
عباس بوصفوان
رؤية السعودية لتموضعها الاستراتيجي، وتفوّق أبو ظبي، والتطبيع، والمتغيّرات في واشنطن، والبعد الإيراني، والقاعدة العسكرية التركية، والعلاقات مع «الإخوان المسلمين»، و»مونديال 2022»... جميع تلك النقاط وغيرها تُعدّ مدخلات في المعادلة قيد الإعداد حالياً في أروقة الخليج وواشنطن، والتي أسهم في كتابة بعض بنودها مستشار الرئيس دونالد ترامب، جاريد كوشنر، في جولته الخليجية الأخيرة، غير الصاخبة.
الصفقة الضبابية
في مؤشّر إلى التعقيدات، الحقيقية والمتوهّمة، التي تكتنف صراع العوائل الخليجية، لم تُتوَّج زيارة كوشنر، التي شملت الدوحة والرياض، بإعلان عودة المياه إلى مجاريها بين الإخوة الأعداء على الضفة الشرقية للخليج، وإنّما ببيانات فضفاضة وحمّالة أوجه، من بعض الأطراف الخليجيين (الكويت، قطر، السعودية) حصراً، ما يطرح السؤال عن تموضع الإمارات ومصر، وعن بنود الصفقة التي لم تتّضح معالمها بعد، والتي لم ينبس كوشنر ببنت شفة عنها وعن مستقبل «مجلس التعاون الخليجي»، الذي يُخشى أنه لن يخرج من غيبوبته. لا ندري إن كان أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، سيحضر «قمة الخليج» الدورية، المرتقبة في المنامة، أو ربّما تُعقد في الرياض، لكن حتى أفضل المتفائلين لا يتوقّع عودة راسخة للعلاقات بين المتخاصمين، بعد السباب العلني الذي كسر كلّ محرمات، وفي ظلّ رغبة بعض المحاصِرين في تمديد توتّر العلاقات مع الدوحة حتى العام 2022، أملاً في طعن شبه الجزيرة القطرية في قلبها، عبر إفشال «مونديال 2022».
تحدّي الإعلام
على رغم البيانات الصادرة من أمير الكويت ووزير خارجيته، والردّ «الإيجابي» القادم من وزيرَي خارجية الرياض والدوحة، وليس من ملك السعودية وأمير قطر، فإن التمترس الإعلامي الحادّ ظَلّ سيّد الموقف من جميع الأطراف، بما في ذلك قناتا «الجزيرة» و»العربية»، الأمر الذي يرسم علامات استفهام عن مدى صدقية الأحاديث التي تشير إلى الوصول إلى حلّ جذري وشامل للأزمة المحتدّة. التحدّي، إذا ما تمّ التوصّل إلى نتيجة تصالحية، سيظلّ متّصلاً أيضاً بمستقبل السياسات التحريرية للإعلام المدعوم قطرياً، والذي حافظ عموماً على نسق هجومي ضدّ السعودية وإيران، بينما حافظ الإعلام السعودي على نمط تحقيري لإيران وقطر و»الإخوان» وتركيا. في المقابل، تَبنّت قناة «الجزيرة» سياسات تحريرية إيجابية عموماً لصالح طهران منذ صيف 2017، تَبدّت خلال العام الجاري حين استُهدف القائد العسكري قاسم سليماني والعالم النووي فخري زاده.
زعزعة التنسيق السعودي - الإماراتي
على رغم الاحتياطات القطرية القديمة، من استضافة الأميركيين في قاعدة العديد، إلى تنمية علاقاتها مع تركيا، لم تَتوقّع الدوحة أن تكون «غزوة 2017» بهذه الشراسة. وقد تَأكّد لها مرّة جديدة أن التهديد المحدق بها قابل للتحوّل إلى خطر داهم في حال تلاقت الإرادتان الإماراتية والسعودية. تأمل قطر تفكيك التلاقي الإماراتي - السعودي، ويعتقد بعض صنّاع قرارها أن السياسة السعودية طالما اتّسمت بالانفعال، وقصر النظر، وتغليب التكتيكي على الاستراتيجي، وهذا أمر يَسِم علاقات الرياض مع حلفائها في المنطقة، من المغرب إلى العراق وصولاً إلى باكستان. وفق ذلك، فإن فرص ضعضعة التنسيق الإماراتي - السعودي قابلة للتحقّق بمزيد من «الصبر الاستراتيجي».
السعودية أولاً
لا تبدي الدوحة حماسة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها، إلّا مع الرياض. وتَبغي قطر، في رأيي، إنجاز عودة العلاقات مع السعودية، بثقل الأخيرة السكّاني، الذي يمكن أن يملأ مدرّجات المونديال، ويعيد الحيوية إلى أسواق الأولى، ويمنح القطريين سهولة الوصول إلى أهلهم في الجوار، ويُمكّنهم من زيارة الأماكن المقدسة. وترى الدوحة أن الفرصة سانحة لإعادة صياغة الرأي العام السعودي، القابل للقولبة، إذا ما تَغيّرت نغمة الرياض. فالاكتفاء بفتح الأجواء الجوية والبرّية السعودية أمام قطر لن يكون مريحاً وكافياً. لكن لا بأس بالنسبة إلى حكومة تميم بن حمد في أن تتحقّق علاقات ذات طابع رسمي وبروتوكولي مع مصر، يسمح لقطر بالإبقاء على علاقاتها بـ»الإخوان المسلمين» المعارضين لنظام عبد الفتاح السيسي، وأن تظلّ العلاقات باردة مع أبو ظبي والمنامة، بما يُحقّق من ناحية ثانية توازناً داخلياً للقطريين «المجروحين» ممّا سمعوه من إعلام المحاصِرين.
تفوّق أبو ظبي التسليحي
هل تشعر السعودية بالقلق من التفوّق العسكري الإماراتي المتوقع؟ نعم، من دون شك. وهذه نقطة تلاقٍ قطرية - سعودية، من دون حاجة إلى المبالغة في توقع نمو التباينات الإماراتية - السعودية كالنار في الهشيم، كما نسمع في بعض الإعلام «البروباغندي»؛ إذ، بصفقة الـ23 مليار دولار، وحصولها على موافقة أميركية أوّلية لشراء طائرات «أف 35»، تُدشّن أبو ظبي سباق تسلّح ليس مع الدوحة وحسب، بل مع الرياض والكويت.
وعلينا توقُّع أن تطالب هذه الدول الخليجية بشراء منظومات تسليحية أكثر تكلفة وتطوّراً، وتزيد من علاقاتها الوطيدة مع «البنتاغون»، وقد ينطبق ذلك حتى على عُمان، التي لا تتمتّع بقدرات مالية تُمكّنها من مجاراة التسليح الإماراتي المنفلت من عقاله.
التطبيع... والفجوة
التحليلات المكرورة عن حذر الرياض من الذهاب إلى التطبيع خشية الحساسية المتعلّقة بقضية فلسطين، لا تسندها الوقائع والتجارب والمعلومات المتوافرة.
السعودية تستخدم حلّ الدولتين، راهناً، قميص عثمان مؤقتاً، ريثما تتحلحل مطالبها مقابل التطبيع. الرياض، في رأيي، مستعدّة لإبرام اتفاق مع إسرائيل، شرط أن تحصل بموجبه على طائرات «أف 35»، وطائرات مسيّرة متطوّرة، وصواريخ دقيقة، فالإمارات ليست «أشطر» منها! بيد أن هذه عملية معقدة وطويلة، ولا يمكن إنجازها خلال الوقت المتبقّي من عهد ترامب، إذ إن على الإدارة «الترامبية» أن تقنع الكونغرس بهذه الصفقة التي من المؤكد أن تكون ضخمة، وأن تُوفّر في المقابل تفوّقاً عسكرياً مستداماً لإسرائيل، وهناك أيضاً القلق من تَغيُّر الوضع الحاكم في نجد، وهذه نقطة لا يمكن لصانعي القرار في واشنطن تجاهلها، وهم الحريصون على أن لا تقع الأسلحة الأميركية المتطوّرة في «أيدٍ معادية». وحتى مع الافتراض بإمكانية إيجاد مخارج لتلك التعقيدات، فإن الوقت لا يتّسع لذلك. ولْنلحظ أنه تَسنّى لأبو ظبي إجراء مفاوضات مطوّلة في شأن التطبيع، مَكّنتها من تحقيق «مكاسب» تسليحية وسياسية في علاقاتها مع اللوبيات الصهيونية، واستمرّت بعيدة عن الأعين السعودية حتى اقتراب اكتمالها.
زعامة المحور
مَن الطرف الذي يتزعّم المحور؟هل السعودية التي يُصبّ عليها جام الغضب غربياً، ويزداد حجم خسائرها وتتلقّى وحدها صواريخ صنعاء؟ أم الإمارات، التي تقتفي أثرها مصر في أكثر من ملف، وتلقت جائزة تطبيعها تسليحاً رهيباً وتكاد تستثنيها صواريخ «أنصار الله»؟ لا يمكن أن تغمض الرياض عينيها إزاء التفوق المتنامي لأبو ظبي على حسابها، على صعيد التطبيع الذي تتمنّاه السعودية، والتسليح، والقصة اليمنية، وفي التكسّب من إيران تجارياً. أصوات خافتة في الرياض ترى أن نجد أولى بذلك، أولى أن تُنوّع علاقاتها، ولا تكون حادّة وأحادية. وإذا كان محمد بن سلمان لا يستطيع قلب ظهر المجن ضدّ حليفه المفترض محمد بن زايد، فإن هذا لا يمنع أن تَشقّ الرياض طريقاً صغيراً حذراً، خاصّاً بها مع قطر، وهو أمر ستُرحّب به الدوحة بحماسة، ويمكن أن تَتفهّمه أبو ظبي، التي تَفتح هي الأخرى أبواباً ليست صغيرة في العلاقات التجارية مع طهران، وخصوم آخرين للرياض.
المعطى الأميركي
لم يُظهر الرئيس المنتخَب، جو بايدن، حماسة للقضية الخلافية الخليجية، بينما صرّح مراراً وتكراراً عن الموضوع النووي الإيراني. تقديرات متعدّدة ترى أن التطبيع والإفراج عن سجينات سعوديات قد يكونان خطوتين مؤجّلتين إلى حين أداء بايدن اليمين الدستورية باعتباره الرئيس الـ46 للولايات المتحدة. أمّا قطر، فلن تختار المضيّ في التطبيع، فهذا يقضي على طعمها وملحها، لكنها لن تَشنّ حملة ضدّ التطبيع، ولن تُشجّع حملات المقاطعة للطيران الإماراتي، وستدعم بايدن في الملفات الأخرى.
البعد الإيراني: هدية للسعودية
ستحافظ قطر على علاقاتها الوطيدة مع تركيا، وعلاقات تنمو بوتيرة بطيئة لكن مستمرّة مع طهران. لكن، على الأرجح، ستساند الدوحة توجّهاً لإخضاع التسليح الإيراني الصاروخي للنقاش. يمكن لها تفسير موقفها بكونه قديماً، ويسبق التوقيع على الاتفاق النووي في 2015، كما يمكن لها بيع ذلك كأنه هدية للرياض. تلك نقطة جديرة بالاهتمام ضمن المراجعة السعودية على شاكلة «u turn». أمّا طهران، فستظلّ تنادي بالعودة غير المشروطة إلى الاتفاق النووي، والانفتاح على نقاش إقليمي في شأن قضايا التسلّح والأمن الجماعي في الخليج.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/12/07