روسيا وضرورة الحلّ السياسي في سورية..محدّدات استراتيجية
أمجد إسماعيل الآغا
بعناية استراتيجية دقيقة وتوصيف بعيد المدى. كرّر المبعوث الأميركي السابق إلى سورية جيمس جيفري في وقت سابق أنّه عمل طيلة خدمته من أجل أنّ تكون سورية مستنقعاً للروس، طالما لا يأخذون السياسة الأميركية بعين الاعتبار. قد يكون توصيف «مستنقع» بعيد المنال، للأخذ به كـ وسيلة واستراتيجية أميركية لإغراق روسيا في الجغرافية السورية واستنزافها سياسياً وعسكرياً، لكن قد تتمكن الإدارة الأميركية من اتباع سياسيات لتشديد الحصار على روسيا في سورية، فالأمر لا يقتصر على الوجود العسكري الأميركي شمال شرق سورية، ولا على مفردات «قانون قيصر» الذي يتابع ويحاصر كلّ المتحالفين مع الدولة السورية، بل ثمة مشروع أميركي ينصّ صراحة على شطب أيّ شرعية للدولة السورية، وبهذا قد تفلح واشنطن مبدئياً بإغلاق كلّ المحاولات الروسية لتحقيق حلّ سياسي، عبر مسار بدأ منذ خيار أستانا، وليس انتهاء بمؤتمر اللاجئين في دمشق، والذي قاطعته دول العالم بسبب الرفض الأميركي له.
من الواضح أنَّ صانع القرار الأميركي يوصي دائماً بمتابعة السياسة الأميركية ذاتها في سورية، فـ تعقيدات الوضع الأميركي في سورية والعراق، إضافة إلى العلاقة التي يشوبها الحذر مع تركيا، كلّ ذلك لن يفرض تغيّراً إيجابياً بالمعنى السياسي حيال روسيا، وجراء تلك التعقيدات ستلجأ واشنطن إلى اتباع سياسة متشدّدة ضدّ موسكو في أكثر من مكان في العالم، وهذا يتعلّق بطبيعة الحال بسياسة جو بايدن والديمقراطيين بعامة.
من المهمّ الإشارة إلى أنَّ سياسات الدول العظمى لا تتغيّر بسهولة، وبالتالي لم يغيّر ترامب بسياسات أوباما كثيراً، لا سيما بما يخصّ سورية، وكذلك لن يفعل بايدن، وهذا لا يلغي أنّ معطيات كثيرة تغيّرت في العالم خلال السنوات الأربع الماضية، وكذلك خلال فترة حكم أوباما، وبالتالي هناك تغيير جزئي سيشمل سورية في زمن بايدن، ولن يكون لصالح الروس، الأمر الذي من الممكن أن يضع روسيا في «خانة اليك».
ضمن ما سبق، تبرز قضيتان أساسيتان يتم التركيز عليهما، وفي المقابل أثارا حفيظة غالبية القوى الإقليمية والدولية، حيث أنّ مؤتمر عودة اللاجئين في دمشق، وكذا الانتخابات الرئاسية السورية في الصيف المقبل، أماطا اللثام عن حجم التحديات التي تؤطر الملف السوري. يضاف إلى ذلك تطورات الأوضاع في سورية وتضارب مصالح القوى الإقليمية والدولية. لكن ضمن تلك المشاهد، هناك مشهد خاص يهندس في دمشق، يشي بأنّ تسوية تهيّأ للقطاف، فالدولة السورية تدرك بأنّ روسيا وإيران وحتى غالبية القوى الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري، ليسوا جمعيات خيرية، ولا بدّ من تقاسم المصالح الجيوسياسية في سورية. فـ لروسيا أغلبية الاستثمارات في الاقتصاد السوري، ولإيران قطاعات كبيرة منه، ولتركيا سوق كامل في شمال سورية، وكذلك للأميركان، حيث خيرات الجزيرة السورية.
روسيا بوصفها حليفاً استراتيجياً للدولة السورية، أرادت أن توصل رسالة للإدارة الأميركية، بأنّ النظام السياسي في سورية هو نظام شرعي، لكن لا بدّ من خطوات جريئة على الدولة السورية أنّ تتخذها، في سياق حلّ سياسي يرضي القوى الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة في الملف السورية، لكن دون المساس بوحدة سورية وسلامة أراضيها، فالتسويات من وجهة النظر الروسية تحكمها ضرورات استراتيجية تأتي في صيغ عودة اللاجئين السوريين، وصياغة دستور جديد يكون رافعة لمرحلة سياسية جديدة في سورية، وكذلك عبر التسوية مع تركيا، وصولاً لإجراء الانتخابات الرئاسية المقررة في صيف 2021. بذلك فإنّ روسيا تريد من كلّ ذلك، الوصول إلى تسوية سياسية في سورية مع تأطير المحاولات الأميركية التي تتخذ من العقوبات منطلقاً للعبث في ماهية وبنية أيّ حلّ سياسي مقبل، وهذا ما لن تعترض عليه تركيا وكذلك إيران.
في ذات الإطار فإنّ أميركا لا ترفض ما تحاول روسيا هندسته، وتؤكد أنّ شروطها تتعلّق بإخراج القوات الإيرانية والعودة إلى القرار 2254، ومحاربة الإرهاب، وإنّ أيّة خطوة من قبل الدولة السورية نحو ذلك ستقابلها أميركا بخطوة، وهذه رسالة الأميركان للروس، وهنا يحضر قوياً تصريح مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون حين قال: «إن الولايات المتحدة لن تغادر سورية إلا إذا ما فعلت إيران ذلك أولاً».
لكن في المقلب الآخر فإنّ روسيا اتخذت من إيران شريكاً ترتكز عليه في سورية، ولا ترغب بخروج إيران من الجغرافية السورية، الأمر الذي يمكن قراءته في إطار تشكيل اصطفاف من شأنه الحدّ من التهوّر الأميركي في سورية، وهذا ما يفسّر أيضاً تأخير الحلّ السياسي في سورية وفق الرؤية الأميركية، لتكون تلك المتناقضات بعمقها وعنوانها العريض، مدخلاً لقوانين جديدة تطبخ على مهل، وحصار أميركي أكثر صرامة ضدّ الدولة السورية وحلفائها، بغية إجبار الدولة السورية وحلفائها لتقديم بعض التنازلات والتي تراها واشنطن من ضرورات ومحددات حلحلة الملف السوري.
الصراع بين الدول العظمى، لا يمكن تصويره على منوال الصراع بين سلطات الدول المتخلفة. إذ لا يمكن تصوّر أنّ أميركا تضع شروطاً على روسيا، لكن بهذا المعنى فإنّ أميركا ستترك سورية لروسيا شريطة تقيّدها بالشروط الأميركية، وفي حال عدم مراعاتها ذلك، فهناك التشدّد والدخول التدريجي في تعقيدات قد تطول، حيث لا إعادة إعمار، ولا تعويم للدولة السورية، ولا بإمكان روسيا جني ثمار سياساتها في سورية، والتشدّد في عقوبات «قانون قيصر» وعقوبات أخرى عبر أميركا والاتحاد الأوروبي، والآن ثمة مؤشرات تؤكد أنّ عقوبات إضافية ستواجهها الدولة السورية، وقد تشمل العقوبات الوجود الروسي في سورية بأكمله.
كلّ ما سبق تدركه روسيا وقبلها الدولة السورية، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال تصوّر أنّ في أجندة دمشق وشركائها أيّ تنازل يتمّ تقديمه للأميركي، لكن ما يمكن قراءته وبشكل جليّ بأنّ روسيا تسعى للحلّ السياسي، وتعمل على تعزيز مفرداته عبر مشاريع اقتصادية تؤسّس لمعادلة تتجاوز القوانين الأميركية، لكن في ذات الإطار فإنّ عدم الاستعجال الأميركي للتوصل والوصول لحلّ سياسي، يضع العصيّ في عجلات التسوية المنتظرة، التي تعمل دمشق وموسكو وطهران على بلورتها.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2021/01/12