سياسة بايدن المستقبلية تجاه السعودية والخليج
د. طارق ليساوي
من يتابع المشهد الدولي بعد رحيل السيد “ترامب” و خروجه المذل من البيت الأبيض، يدرك أن هناك تحولا ما يتم في الخفاء و خاصة في عالمنا العربي المنكوب بالاستبداد و الفساد و انعدام الرؤية ، و من هذه الأحداث المصالحة الخليجية و تراجع حدة حلف الرياض- أبوظبي، و عودته إلى حجمه الطبيعي ، فلم نعد نسمع خرجات هؤلاء القادة العظام و أبواقهم الإعلامية وهم يهددون و يخططون و يتوعدون … و تم الاتفاق مؤخرا على تشكيل حكومة ليبيا بتوافق بين أطراف الصراع و هذا مؤشر إيجابي في طريق خفض حدة النزاع و وقف نزيف الدم، و في اليمن بدأت أصوات من داخل بلد الحرمين تلوح بإنها تسعى إلى إنهاء الحرب في اليمن و صرحت مصادر في أبوظبي أن العمليات العسكرية في اليمن قد إنتهت..هذه التحولات ما كان لها أن تحدث لولا رحيل ترامب، فعلينا حقيقة كشعوب عربية أن نتوجه بالشكر للشعب الأمريكي الذي أزاح هذا الحاكم من السلطة، والذي كان يتحكم ويدير الطغاة العرب بجهاز التحكم عن بعد!!…
و أهم مايثير إهتمامي في هذه التحولات و التغييرات التي تشهدها المنطقة العربية، هو موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من قضية مقتل خاشقجي ، و الإعلان رسميا عن تقديم تقرير غير سري مخابراتي للكونغرس الأمريكي، يتضمن حقائق و أدلة ذات صلة بمقتل الشهيد “جمال خاشقجي” رحمه الله، بل أن هناك أخبار و قصاصات إخبارية مصدرها الرئيس “بايدن” و “مسؤوليين” كبار في إدارته تدعو الملك سليمان إلى ضرورة تغيير ولي العهد محمد بن سلمان ، أو أن واشنطن ستعمل على دعم قوى أخرى لها القدرة على حكم المملكة، و الواقع أن هذه التصريحات الغاية منها التسويق الإعلامي و تعميق الضغوط على المملكة و على رأس هرم السلطة فيها بغرض تقديم المزيد من التنازلات لصالح أمريكا و إسرائيل…لكن ينبغي على الشعب و النظام في بلاد الحرمين التعامل معها بجدية للخروج من حلقة مفرغة من الإبتزاز و الإستغلال..
و هذا الموقف متوقع، فقد أشرنا في أعقاب إختفاء الصحفي و الإعلامي السعودي “جمال خاشقجي” في مقال بعنوان” قضية جمال خاشقجي سيكون لها تداعيات خطيرة على النظام السعودي ” إلى أن هذه القضية سيتم استغلالها للضغط على النظام و ابتزازه، و هو ما تأكد بالفعل و تزايدت حدة الضغوط والتهديد بالعقوبات الإقتصادية والعسكرية على النظام السعودي…
و الواقع أن ما حدث بالقنصلية السعودية أمر مشين، ومؤشر على عقلية و ذهنية و دموية خادم الحرمين القادم،لأن ما تم تسريبه عمليا و مغادرة القنصل السعودي لتركيا ، بالرغم من توفره على الحماية الدبلوماسية، أكد جريمة الإغتيال و تورط النظام السعودي، فوظيفة القنصل ليس التحقيق مع المعارضين أو إستجوابهم، إنما ذلك من إختصاص الإدعاء العام، كما أن تلويح بعض الجهات بداخل المملكة وبخارجها بضرورة تغيير ولي العهد السعودي واستبداله بشخص أخر من الأسرة الحاكمة، يعد إعترافاً ضمنيا بثبوت الجريمة في حقه..
و بنظرنا فإذا تأكد أو لم يتأكد تورطه في إصدار أمر الإغتيال فإنه مشارك أساسي في الجريمة و يتحمل المسؤولية السياسية و الجنائية لأنه هو المستفيد من هذا الفعل الجرمي، ووجب في حقه القصاص وفقا للشريعة الإسلامية المطبقة في السعودية هو وباقي المتورطين، وعلى الرغم من أن الجهود قد إتجهت منذ البداية إلى إيجاد ” كبش فداء” لإنقاذ رأس ولي العهد السعودي ، إلا أن ذلك لن ينهي القضية، كما أن ذلك محرم شرعا،قال عليه الصلاة والسلام :” إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد” (صحيح البخاري)، وصدق رسول الله فلما كانت هذه الأمة عادلة كانت عزيزة، و لما غاب عنها العدل أصبحت دليلة مستضعفة تنهب ثرواتها و تسفك دماء أهلها و تستباح أعراضها…و كيف لا؟! و السعودية موطن الرسول عليه السلام، و حاملة نور الإسلام و قبلة المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها ، أصبحت منبع الظلم و العدوان و الغدر بذوي القربى، و أصبح ولاءها لأعداء الأمة في مخالفة صريحة لعقيدة الولاء و البراء..
و برأينا أن الإعتراف بالخطأ خير و أفضل من التمادي فيه، لأن التمادي في هذه الحالة سيكلف السعودية الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، و سكوت النظام و محاولته إستثمار مرور الوقت على أمل أن ينخفض الإهتمام الدولي بالقضية ، هو رهان خاسر و لن يجدي نفعا، كما أن الرهان على كسب دعم أمريكا و الغرب توجه فيه مجانبة للصواب، و لا يعني أن المملكة لن تستطيع التوصل إلى تفاهمات مع هذه القوى و الضغط عليها، لكن ذلك سيكون على حساب تقديم مزايا و تنازلات سياسية وإقتصادية غير متناهية، تضر بمصلحة الشعب السعودي، و بالأمة العربية والإسلامية ككل، لأن بلاد الحرمين ليست ملكا لأهلها، بل هي ملك لنحو مليار ونصف مسلم، فقوة المملكة الناعمة نابعة من أن رسالة الإسلام التي إنطلقت من أرضيها، و على هذه الأرض ولد و بعث و دفن نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام و على أرضها توجد معظم المقدسات الإسلامية و في مقدمتها مكة المكرمة والروضة الشريفة…
لا نخفي أن النظام السعودي جانب الصواب، و عرض مشاعر المسلمين للأذى، فعَلَمُ المملكة يحمل رسالة الإسلام، و من المعيب أن يكون هذا العلم برمزيته الدينية و التوحيدية موضع شبهة أو إتهام،فأعداء الإسلام و في مقدمتهم الصهاينة الحاقدين على الإسلام و معهم حراكات التبشير و التنصير تستغل ذلك أبشع إستغلال لتأكيد المزاعم المغلوطة عن الإسلام و المسلمين، و من ذلك أن هذا الدين مصدر للعنف و القتل…
و بعيدا عن قضية” جمال خاشقجي” فإن النظام السعودي مطالب بمراجعة سياساته، لعل هذه القضية و ما كشفت عنه من نفاق الغرب و خاصة أمريكا، فرصة للخروج من حلف الشيطان، و العودة إلى الحق و العدل، و مقدمة ذلك وقف العدوان على الشعب اليمني، و العمل على إعادة إعمار هذا البلد و تضميد جروح و معاناة ملايين اليمنيين، فلعنة اليمن ستلاحق السعودية حكومة وشعبا و كل من شارك في هذا العدوان و لو بالصمت، و الإنصياع للهوى تحت ذريعة مقاومة وحصار النفوذ الإيراني هو نوع من الجنون ، فالحد من نفوذ إيران يمر عبر بوابة الوحدة العربية والإسلامية، فالسعودية عندما إختارت وأد الثورات العربية ، فهي أضعفت من نفوذها، و ألحقت بأمنها القومي ضررا كبيرا..
فسفينة النجاة هي العودة إلى الحق و العدل، و الإبتعاد عن الظلم و الطغيان، و الإستكبار على الضعفاء، و الخنوع المذل للأقوياء ، و المدخل هو محاسبة الجاني الفعلي في قضية جمال و تطبيق الحد الشرعي في حقه، فذلك هو المدخل الوحيد للخروج من المأزق و إعادة ترميم صورة المملكة…و بنظرنا التضحية بالجزء أفضل من التضحية بالكل، و استمرار محمد بن سلمان في السلطة سيضر بمصلحة النظام السعودي و سيضر بمصلحة بلاد الحرمين ، بل إني أرى أن مسكه للسلطة رسميا سيقود لكوارث أكبر و العديد من البلدان الغربية و على رأسها أمريكا تقبل ضمنيا ببقاءه على رأس النظام، لأنه فرصة لا تعوض بالنسبة لها، لابتزاز هذا البلد الإسلامي و الاستمرار في نهب ثرواته، فملك متورط في مقتل صحفي ، سيكون محاطا بعدد غير محدود من الدعاوي القضائية في مختلف بلدان العالم، و سيكون رأسه مطلوبا من قبل العدالة الدولية ، و هذا في مصلحة أمريكا و إسرائيل و “بايدن” لا يختلف كثيرا عن “ترامب” فهو بدوره يسعى إلى حلب ثروات السعودية و خدمة أجندة الصهاينة، و لكن بشعارات براقة ” الديمقراطية” و ” الحرية” و هذا الرجل عندما كان نائبا للرئيس “أوباما” قد عارض موقف الإدارة الأمريكية و دعا إلى دعم مبارك ضد الثوار و المرجو العودة لمذكرات “هيلاري كلينتون” و مذكرات “براك أوباما” و ينبغي أن لا ننسى أن إدارة الرئيس “الملون” ذي الأصول الإسلامية هي من دعمت الثورات المضادة و باركت تدخل الرياض و أبوظبي في وأد الثورات العربية …
نرجوا حقيقة أن يدرك إخواننا في بلاد الحرمين خطورة التمسك برأس ولي العهد الحالي ، فاستمراره في السلطة خطر على بلده و على أمته ،و نأمل أن يتحرك ملك السعودية لوقف هذا الخطر القادم، و نقل السلطة لغير ابنه محمد بن سلمان إنقاذا لبلاده، و أيضا الإفراج عن كافة المعتقلين و على رأسهم العلماء الذين نددوا بقصف اليمن و حصار قطر و تغريب بلاد الحرمين و تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد ، ووقف الحرب على اليمن و إعادة إعمار اليمن و إعلان المملكة عن براءتها من دعم الثورات المضادة و اتجاهها نحو الاعتراف بحقوق الشعوب العربية في تقرير مصيرها ، و سعي المملكة نحو تعزيز التعاون و التكامل الخليجي العربي الإسلامي و ترميم سياساتها الخاطئة طيلة السنوات الماضية.. فلا مناص من اتخاد هذه الخطوات السياسية ، بغرض تجنيب البلاد السيناريو الأخطر، فمثل هذا الموقف قد يقوي الجبهة الداخلية و يجنب البلاد الكثير من الضغوط الأجنبية ، فالبرغم من موقفنا من سياسات النظام السعودي إلا أننا لا نرغب أن تصبح بلاد الحرمين مستباحة للصهاينة و خاضعة للإملاءات الأمريكية ، فالرجوع عن الخطأ خير و أفضل من التمادي فيه..
أما تقديم التنازلات لبقاء ولي العهد الحالي في السلطة فهذا أمر فيه مجانبة للصواب…و موقفنا هذا نابع من حبنا لبلاد الحرمين و لشعب الحجاز الذي كان له الفضل و السبق في نشر نور الإسلام… و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون …
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2021/02/08