الصين والحرب الباردة التي لا تفهمها الولايات المتحدة
محمد فرج
تبدو معركة أميركا مع الصين أمراً بالغ التعقيد، فبكين مندمجة أساساً في النظام الاقتصادي العالمي، وهي جزء أساسي من تجارته وتبادله التجاري، حتى مع الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
في العام 2020، نشر الباحثان فاركي باول وزن هان في المجلة الصينية للسياسة الدولية ورقة بحثية بعنوان "صعود الصين وسياسات موازنة القوى"، ناقشا فيها آفاق التطور الصيني والاستراتيجيات الأميركية الممكنة لتطويق هذا الصعود.
يعتمد الباحثان في دراستهما على مستويات ثلاثة في موازنة القوى، تمثل جميع الاحتمالات الممكنة أمام الولايات المتحدة في تطويق الصين، الأول هو الموازنة الخشنة أو الصلبة، القائمة على فكرة الأحلاف العسكرية الرسمية والمعادية، واتفاقيات الدفاع المشتركة والمعلنة، وتنفيذ خطط لمراكمة السلاح داخلياً، والتطوير المفرط في البنية العسكرية.
المستوى الثاني هو الموازنة الصلبة المحدودة، والتي تتمثل في بناء القدرات العسكرية بطريقة عقلانية أكثر، وتشكيل أحلاف غير رسمية، وتبادل المعلومات، وعمليات ومناورات مشتركة، ومواجهة خروقات الأمن السيبراني وغيرها، والثالث هو الموازنة الناعمة التي تنطوي على التحالف الدبلوماسي أكثر منه في العسكري، ومحاولة بناء حلف من خلال الهيئات والمنظمات المشتركة. ويمكن إدراج العقوبات الاقتصادية ضمن هذا المستوى من محاولات موازنة القوى.
آفاق المحاولات الأميركية في الجغرافيا والمستويات الثلاثة
كان الرئيس الأميركي باراك أوباما من المهتمين بتركيز الانتباه الأميركي على الصين (pivot to east)، متسقاً بذلك مع التوجه الاستراتيجي لهنري كيسنجر. وربما كانت القرارات المتخذة في سياق خفض القوات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط تتسق مع هذه التطورات في السياسة الخارجية الأميركية، ولكن خطوات أوباما لم تتجاوز حينها حدود الموازنة الناعمة (المستوى الثالث).
أخذت المحاولات الأميركية طابعاً أكثر شراسة مع دونالد ترامب، إذ اتجهت إلى الحرب التجارية المعلنة وفرض العقوبات، وانتقلت من منطق موازنة القوى عبر الاندماج إلى موازنة القوى عبر المنافسة الصريحة. وذكرت الولايات المتحدة الأميركية ذلك بصراحة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي في العام 2017، حين اعتبرت الصين عائقاً أمام القوة الأميركية ومصالحها وتأثيراتها في العالم.
وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد نصبت في العام 2016 أنظمة دفاع متطورة في كوريا الجنوبية. وفي العام 2019، أرست سفينتين حربيتين في سنغافورة. وفي العام 2020، جرت مناورات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة ودول آسيان العشر التي تضم تايلاند وإندونيسيا والفيليبين وبروناي وفيتنام، التي طلبت حينها حضور سفينة مراقبة صينية.
بين أوباما وترامب، كانت الولايات المتحدة تتأرجح بين المستويين الثاني والثالث في إطار محاولاتها لتطويق الصين. ومع فشل إدارة ترامب في الضغط على دول المحيط الهادئ، وانسحابه من الاتفاقية معها، ومحاولة إجبارها على تقليص التبادل التجاري مع الصين، لا تبدو آفاق الانتقال إلى المستوى الأول في محاولات التطويق ممكنة مع إدارة جو بايدن، وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل لاحقاً في هذه المقالة.
تبحث الولايات المتحدة في العديد من خيارات الأحزمة الجغرافية العسكرية التي قد تطوق الصين، وما زالت إلى اليوم تتأرجح في خياراتها بين المستويات الثلاثة، ولا يبدو أن استراتيجياتها تعمل بشكل فعال.
وعلى الرغم من تقارب الأميركي مع الهند، ومشاركتها في الحوار الأمني الرباعي إلى جانب اليابان والولايات المتحدة وأستراليا، فإنها تمتنع عن أداء دور موازنة القوى لصالح الأميركي في المستوى الأول، وتعتبر الحوار الرباعي أمراً تكتيكياً أكثر منه استراتيجياً ودائماً. وما زالت سياستها تعتمد على التوازن الناعم مع الصين، من خلال انضمامها إلى عدد من الهيئات المشتركة معها، ومنها شنغهاي والبريكس ومنظومة العمل الثلاثية التي تجمعها مع الصين وروسيا (RIC) وبنك الاستثمار الآسيوي. تعتمد الصين في سياستها الخارجية مع الهند على قطع الطريق على محاولات الولايات المتحدة لتحويل الأخيرة إلى عامل موازنة من المستوى الأول الخشن.
بالنسبة إلى اليابان التي نصبت حاملات طائرات الهيلوكوبتر "إزومو" في العام 2019 في بحر الصين الجنوبي، واشتركت مع الولايات المتحدة في عدد من المناورات، علاوة على احتضانها عدداً من القواعد العسكرية الأميركية، فإنها لم تنفق أكثر من 1% من ناتجها القومي على التسلح، الأمر الذي يجعلها بعيدة عن تغيير استراتيجياتها المرسومة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمتها فيها. ويبدو التحفظ الياباني عن أداء هذا الدور واضحاً في الخطاب السياسي الذي يشدد في كثير من المواقف على الالتزام بميثاق التفاهم في بحر الصين الجنوبي (SCSCCoC -South China Sea Code of Conduct).
بالنسبة إلى دول آسيان (ASEAN)، تبدو المهمة الأميركية صعبة في إقحامها في توتر خشن مع الصين (من المستوى الأول)، في ظل الارتباط الاقتصادي الشديد لهذه الدول معها، وتبنّيها خطط صعود اقتصادية، مسترشدة بالنموذج الصيني في التطور السلمي.
بشكل عام، تبدو مهمة التطويق في المستوى الأول صعبة جداً بالنسبة إلى الأميركي، على الأقل في المدى المنظور.
الاستراتيجيا الصينيّة
وصلت الصّين إلى ما وصلت إليه من مكانة دوليّة من خلال التطوير الاقتصادي الذي انطلق مع الإعلان عن برنامج التحديثات الأربعة (الصناعة، الزراعة، البحث العلمي، الدفاع)، وما تزال نسب النمو في الناتج المحلي الإجمالي الصيني تشهد ارتفاعاً منذ 34 عاماً، وهي تتراوح بين 7% وأكثر من 12%. ومن اللافت للانتباه أن هذا النمو الاقتصادي لم يترافق مع تخصيص جنوني للإنفاق العسكري، فالصين - بحسب معهد "ستوكهولم" - كانت تخفض نسبة الإنفاق العسكري من مجمل الإنفاق الحكومي (15.4% في العام 1994، 5.4% في العام 2019)، الأمر الذي يؤكد حقيقة شعارها في التطور والتنمية السلمية.
في العام 2010، وبتوجيه من الرئيس الصيني، تم تغيير شعار الصعود السلمي "peaceful rise" إلى "peaceful development"، والرسالة الصينية كانت واضحة: نحن نبحث عن تنمية سلمية، وليس عن منافسة. ولإزالة الالتباس في مفهوم الصعود عند الأمم الأخرى، تم تغيير لفظ الشعار، وليس جوهره أو معناه المقصود والسلمي منذ اللحظة الأولى.
ومع هذا التوجه السلمي في التطور، لم تنسَ الصين أن الدفاع أمر مهم، ولا سيما مع فهم السياسة الخارجية الأميركية. ورغم ذلك، فهي لا تتبنى في أدبياتها العسكرية أي مفهوم هجومي، وإنما تتبع مبدأ "الدفاع النشط"، بمعنى امتلاكها تكنولوجيا عسكرية متطوّرة، كمقاتلة التنين الجبار "J-20"، لتتمكن من الرد العنيف في حالة الهجوم عليها، مع تمسكها بمبدأ عدم المبادرة بأي هجوم.
تمثل مبادرة "الحزام والطريق" تكثيفاً لمنطق الصين في التنمية العالمية السلمية. لقد استثمرت من العام 2013 إلى العام 2018 في 90 مليار دولار على الطريق، وأكملت ما قيمته 400 مليار في البنية التحتية، وأبرمت 46 اتفاقية تعاون تكنولوجي مع دول المبادرة.
ويمكن القول إنَّ هذه الاستراتيجيا باتت تحاصر منطق الولايات المتحدة الأميركية المتوحّش في العالم، وفي كلّ مكان، فتبادلها في الشرق الأوسط كان يزيد بـ300 مليار عن تبادل الولايات المتحدة، من دون أن ترسي سفينة حربية واحدة في موانئها أو في أوروبا. وخلال جائحة كورونا، قدمت النموذج في التضامن الأممي. ويمكن اعتبار إيطاليا المثال الواضح على هذه الحالة قبل الجائحة، فمنذ العام 2013، وقّعت البلاد 11 اتفاقية ثنائية مع الصين، تتعلّق بالتبادل الثقافي وحماية البيئة والعلوم والتكنولوجيا والتمويل. بالمناسبة، يتجاوز ذلك ما وقعته إيطاليا مع الصين منذ العام 1970 وحتى العام 2000، الأمر الذي يعني تصاعد الدور الصيني في التنمية العالمية بشكل ملحوظ، حتى في قلب العاصمة الأوروبية.
حرب باردة لا تفهمها الولايات المتحدة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، استثمرت الولايات المتحدة الأميركية في انتصارها، مستخدمة أدوات جديدة في إدارة حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي، فالعسكرة المفرطة من الجانبين كانت حاضرة، وكذلك تأسيس الأحلاف العسكرية، وإرساء القطع العسكرية في جغرافيا العالم بشكل موزع.
عاش الكوكب حينها عالمين متوازيين تفصل بينهما الجدران: تناقض في طريقة الإنتاج، وفي الإيديولوجيا، وفي السلاح. وفي السياق نفسه، ابتكرت الولايات المتحدة أدواتها "الناعمة" في الحرب، من تأسيس الهيئات الثقافية والسينمائية في العالم، وهيئات "المعونة"، وتوريط العالم في فخ الديون وشبكة من المنظمات غير الحكومية التي فكّكت المجتمعات.
تبدو معركة الولايات المتحدة مع الصين أمراً أكثر تعقيداً، فالصين مندمجة أساساً في النظام الاقتصادي العالمي، وهي جزء أساسي من تجارته وتبادله التجاري، حتى مع الولايات المتحدة الأميركية نفسها (لم يتجاوز التبادل التجاري الأميركي- السوفياتي حاجز الـ5% في أحسن حالاته من مجمل التجارة السوفياتية منذ الستينيات، إلا أنه يصل إلى 15% في حالة الصين من مجمل تجارتها الضخمة). كما أنها تقدم نموذجاً مختلفاً في التمويل والتبادل التجاري، وتعطي فرصة لتنمية أكثر جذرية في دول الأطراف، ولا تنصب البنوك الصينية أفخاخاً من الديون، كما تعاملت البنوك الأوروبية والأميركية.
تتبنّى الصين قوّة ناعمة في إطار التنمية العالمية. هذه السّياسة لم تخبرها الولايات المتحدة التي استخدمت القوة "الناعمة" في إطار الهيمنة. إنّ الصين تصعد ببساطة في ميدان منظومة القيم البديلة والعدالة والسمعة الدولية الحسنة، دامجة كلّ ذلك في إطار النمو الاقتصادي المتسارع، ولا يبدو أنّها تخطط لتأسيس أحلاف وقواعد عسكرية، حتى على امتداد "الحزام والطريق"، إلا أذا أجبرها جنون الهبوط الأميركيّ على ذلك. إنّها الحرب الباردة التي لم تجرّبها الولايات المتحدة، ولا تعرف جيّداً التعامل معها بعد!
الميادين نت
أضيف بتاريخ :2021/02/16