الإفصاح والشفافية في مؤسسات التقاعد
محمد العوفي ..
الاستغاثة وما يصحبها من أصوات وضجيج ترتبط عادة بوجود مشكلة ما أو خلل ما يريد صاحبه الخروج منه بأقل التكاليف والأضرار، والأصوات التي يصدرها المستغيث تهدف في الأصل لطلب المساعدة، وإنقاذ حياته، والخروج بأقل الأضرار، رغم أن المستغيث نفسه قد يكون سبب المشكلة، وهو من وضع نفسه في هذا الموقف اعتباطيا أو جهلا أو عن سوء تصرف، والحال في استغاثة المنظمات والمؤسسات العامة أو الخاصة لا يختلف كثيرا عن استغاثة الأفراد، لأن الغرض من هذه الاستغاثة واحد.
ومن هذا المنطلق، يمكن تفسير صوت استغاثة مؤسسات التقاعد في المملكة لإنقاذها من ورطتها المالية التي تهدد استمرار دفع رواتب المتقاعدين والمشتركين، هذه الأصوات منها ما يصدر من قبل المؤسسة العامة للتقاعد (المسؤولة عن تقاعد موظفي الحكومة)، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (المسؤولة عن تقاعد موظفي القطاع الخاص) مباشرة.
وبالعودة إلى مقال نشرته هنا في يوليو 2014 طالبت فيه بإعادة هيكلة مؤسسات التقاعد، وأشرت فيه إلى وجود خلل لدى مؤسسات التقاعد في كيفية إدارة ادخارات الموظفين، وأن هذا الخلل قد يعود إلى البيروقراطية الإدارية أو سوء الاختيار لأعضاء الإدارات الاستثمارية، وبالتالي سوء صناعة القرار الاستثماري، وطالبت المؤسستين فيها بالاعتراف بالمشكلة أولا، والبحث عن منبع الخلل وتصحيحه، ثم العمل على إعادة النظر في كيفية إدارة هذه الادخارات، وتنويع الاستثمارات بين استثمارات آمنة ذات عوائد منخفضة، وأخرى تنطوي على مخاطر أكبر لكنها تضمن عوائد عالية.
وعندما سمعنا ضجيج الاستغاثة، ارتفعت حدة الأصوات المطالبة بدعمهما تحت قبة الشورى، وإنشاء صندوق احتياطي لدعم مؤسسات التقاعد، أو قيام الحكومة بإقراض المؤسسة العامة 100 مليار ريال، وإقراض المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية 50 مليارا على مدى 25 عاما، لتغطية العجز المتوقع في صندوقيهما، دون أن تجرؤ الجهات الرقابية أو حتى مجلس الشورى أن يطالب بفتح صناديق المؤسسة المغلقة أو دفاترها المحاسبية، لأن هذه المؤسسات منحت من القداسية ما جعلها فوق النقد والمطالبة بالمحاسبة، ولذا بقيت هذه المؤسسات صناديق مغلقة لا يعرف ما يدور خلف كواليسها، فلا القوائم المحاسبية، ولا الحسابات الختامية، ولا التدفقات النقدية، ولا المحافظ الاستثمارية للصناديق التقاعدية يعرف عنها شيء، ولا تنشر ولا تراقب، رغم أنها مؤسسات عامة تأخذ أموالا من المستفيدين بغية استثمارها بطريقة مثالية، تحقق لهم الأمان عندما يحين وقت استحقاقها (سن التقاعد)، علاوة على أن نشرها لا يرتب عليها أي مخاطر أمنية أو اقتصادية، فما الذي يمنع من نشرها والإفصاح عنها.
ومن الطبيعي جدا أن يستغل غياب الحوكمة والشفافية بشكل سلبي، لأن غيابهما يعني أن ما يحدث خلف الكواليس في مأمن عن الرقابة، والمحاسبة، والمساءلة، وأن الخلل أو التجاوز الذي يحدث لن يكتشف، ويمكن تغطيته بسهولة، وبالتالي الاستمرار في التلاعب والتجاوزات الإدارية والمالية، ويغادر المسؤول عنها منصبه أو وظيفته قبل أن تكتشف.
وما نشر حول المؤسسة العامة للتقاعد، والتجاوزات المالية والإدارية التي سربت ونشرت خلال الأيام الماضية، والهدر المالي الذي تسببت فيه في حال ثبوته، يعد خيطا أوليا في حال سحبه سيجيب على سؤال المواطن البسيط والمحلل الاقتصادي وعضو الشورى الذي طالب بدعم مؤسسة التقاعد، ويكشف لهم سر استغاثة المؤسسة العامة للتقاعد، ويعيدنا إلى نقطة جوهرية في مسيرة المؤسسات العامة بشكل عام، إن كل ما يقال حولها من تجاوزات مالية وإدارية يجب أن يؤخذ في الاعتبار، ويفتح فيه تحقيق موسع.
أعتقد أن ما سرب من تجاوزات إدارية ومالية يدعو إلى تنبي قواعد واضحة للإفصاح والشفافية والحوكمة، وصرامة في تطبيقها على جميع المؤسسات العامة، لأن الحوكمة والشفافية ما دخلتا في قطاع إلا وزانتاه، ومتى ما طبقتا بصورة صحيحة سنراهن على نجاح هذه المؤسسات، وكفها عن الاستغاثة وطلب الدعم الذي ملأ الصحف والمجالس ضجيجا.
صحيفة مكة
أضيف بتاريخ :2016/06/07