الاضطراب الحقوقي والأمني الذي يسبق العاصفة
د. سعيد الشهابي ..
شيئا فشيئا تتجه أوضاع العديد من الدول العربية نحو الوضع الذي كانت عليه عندما اندلعت ثورات الربيع العربي قبل أقل من ستة أعوام. يومها كان القمع هو الظاهرة الأوضح في تلك الدول، كما كان الهدوء النسبي الظاهري مؤشرا لعمق ذلك القمع والقبضة الحديدية للأنظمة، وليس لاستقرار أمني حقيقي الذي لا يتحقق إلا برضا الناس وشعورهم بالعدل والأمن وتوفر المستوى الأدنى من الحقوق. جاء الانقلاب على الثورات مفاجئا ولكنه كان مدروسا وشاركت فيه قوى الثورة المضادة بفاعلية كبيرة وتصميم منقطع النظير. وكان بإمكان أغلب البلدان التي حدثت فيها الحراكات الشعبية وتلك التي لم تكن رياح الثورة قد وصلتها أن تستفيد من هذه الفترة لمنع الاحتقان الداخلي وإزالة أسبابه، خصوصا في مجال الحقوق السياسية والمدنية. كان بإمكانها مثلا إعلان حزمة من الإصلاحات المحدودة التي توفر مجالا للتنفيس عن الاحتقان وتبييض سجونها من معتقلي الرأي. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
وعلى العكس، تصاعدت الانتهاكات بمعدلات كبيرة بموازاة تعمق الاستبداد وتغول «الدولة العميقة» الرافضة للانفتاح والتطوير. ويضاف إلى أسباب الاحتقان هذه المرة تدخل قوى الثورة المضادة في الشؤون الداخلية للدول العربية بأشكال وأساليب مقززة، تعمق الشعور بانتهاء السيادة الوطنية وتعمق الهيمنة الأجنبية على العالم العربي. فالولايات المتحدة أصبحت، برغم عزمها على نقل ثقلها العسكري من المنطقة إلى جنوب شرق آسيا وبحر الصين والمحيط الهاديء، أكثر دعما للأنظمة وأوسع تدخلا في شؤون المنطقة، خصوصا عبر بوابة «التصدي للإرهاب». أما بريطانيا فقد عادت إلى المنطقة بعد أقل من نصف قرن من الانسحاب العسكري من كافة المناطق شرقي السويس في 1971، وبدأت ببناء القواعد العسكرية، وأولها في البحرين. كما أن حقوق الإنسان تصدعت كثيرا في ظل سقوط السيادة وتوسع دوائر الصراعات وتعدد جهاتها، كما هو الوضع في العراق وسوريا واليمن وليبيا. وإذا أضيف البعد الإسرائيلي للعوامل المؤدية لغياب الاستقرار وتراجع الشعور بالأمن السياسي فان توسع دائرة نفوذ الكيان الإسرائيلي في السنوات الأخيرة كشف تراجعا كبيرا على صعيد حصانة الأمة وكرامتها. وفي الأسبوع الماضي اعترفت الأمم المتحدة بان مشكلات العنف والمستوطنات وحصار غزة تقوض الأمل في السلام. وقال مبعوث الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف إن تقرير اللجنة الرباعية توصل إلى أن استمرار العنف والإرهاب والتحريض والتوسع في المستوطنات الإسرائيلية ووجود غزة خارج سيطرة السلطة الفلسطينية «يقوض بشدة الأمل في السلام». وتضم هذه اللجنة الدولية الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
وبتضاؤل سراب السلام، تتعمق مشاعر اليأس والإحباط، ومعها النزعة للتمرد على النظام السياسي العربي الذي أضعف أرادة الأمة في التحرير وسعى للتطبيع مع قوات الاحتلال الإسرائيلية. وبرغم الجهود التي بذلت لإضعاف موقع فلسطين في الضميرين العربي والإسلامي، فأن مشاهد الاقتحام اليومي للمسجد الأقصى وتهويد القدس وإحكام الحصار على غزة والفشل الدولي في دعم أهلها وإعادة بناء الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي قبل عامين، كل ذلك من العوامل التي تدفع نحو الاحتقان السياسي والنفسي. وإذا أضيف لذلك بروز مشاريع التطبيع مع قوات الاحتلال، وإقحامها في الشؤون الداخلية للدول العربية، بما في ذلك استخدام تجاربها في القمع والاضطهاد، اتضح مدى الاستفزاز الذي يوجه للوجدان الشعبي في المنطقة. وقد استخدم أبشع الأساليب لتخدير الجماهير، وتم إشغالها بقضايا هامشية لصرف أنظار الشعوب عن أوضاع بلدانها وإضعاف جنوحها نحو التغيير. غير أن هذه السياسة إنما تعمق الاحتقان تدريجيا حتى يصل إلى حالة تنفجر الأوضاع فيها كما حدث في العام 2011.
وإذا كانت أوضاع حقوق الإنسان المؤشر الأوضح لمدى الاستقرار الداخلي للبلدان، وما إذا كانت هناك آفاق للثورة والتمرد، فأن من المؤكد أن هذه الحقوق أصبحت أكثر ترديا في العديد من البلدان العربية. يضاف إلى ذلك تراجع مستويات المعيشة وغلاء الأسعار وانخفاض الإنفاق العام نتيجة تراجع أسعار النفط، الأمر الذي يضاعف الأزمة ويزيد الغضب. وفي الأسبوع الماضي قدم تقرير بثته وكالة «رويترز» صورة قاتمة حول الوضع المصري مؤكدا أن «هناك حملة صارمة استهدفت في البداية نشطاء المعارضة لتستهدف الآن شخصيات بارزة ومقدمي برامج تلفزيونية وموسيقيين يؤدون عروضهم بالشوارع… وأحيل قضاة عارضوا أحكاما جماعية بالإعدام إلى التقاعد. ويواجه نقيب الصحافيين ووكيل النقابة محاكمة وذلك للمرة الأولى في تاريخ المؤسسة الصحافية». وقال التقرير إن السلطات تطبق بشكل صارم قانونا يلزم بالحصول على موافقة وزارة الداخلية على أي تجمع عام لأكثر من عشرة أشخاص حتى أن الشرطة فرقت في 27 حزيران/يونيو مئات الطلاب الذين كانوا يحتجون على تأجيل امتحاناتهم بعد تسريب الأسئلة. أنها مقدمة لانفجار أوضاع مصر، أن حدث فسوف ينتقل إلى بلدان عربية أخرى. وثمة ضغط آخر على نظام السيسي من الاتحاد الأوروبي حول مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في وقت سابق هذا العام. وفي الأسبوع الماضي اصدر مجلس الشيوخ الايطالي قرارا بوقف تزويد مصر بقطع غيار لطائرات حربية احتجاجا على ذلك.
فردت وزارة الخارجية في بيان أصدرته يوم الخميس الماضي قالت فيه إن «مصر تابعت بعدم ارتياح القرار الصادر عن مجلس الشيوخ الإيطالي… وهو الأمر الذي لا يتسق مع حجم التعاون القائم بين سلطات التحقيق في البلدين منذ بداية الكشف عن الحادث والعلاقة الخاصة التي تجمع بين البلدين على كافة المستويات.»
وبرغم الصورة الديمقراطية المرتسمة في الأذهان عن المشروع الديمقراطي الغربي، إلا أن سياسات التحالف الأنكلو – أمريكي في المنطقة أصبح معوقا لرواج ذلك المشروع في هذا الجزء من العالم. وقد تكثفت جهود هذا التحالف في السنوات الخمس الأخيرة لمواجهة حركات التغيير وحماية الأنظمة الصديقة. ولذلك يتعرض قادة هذا التحالف بين الفينة والأخرى لضغوط من النشطاء السياسيين والحقوقيين للقيام بدور أكثر توازنا خصوصا بعد أن نجم عن سياساتهم تصاعد ظواهر التطرف والعنف. بل أن الإرهاب توسعت دوائره كثيرا خلال السنوات الخمس عشرة منذ إعلان «الحرب على الإرهاب»، وأصبح يمثل خطرا ليس على المنطقة فحسب بل حتى على الغرب. لذلك ارتفعت الأصوات المطالبة بتغيير في سياسات التحالف الأنكلو أمريكي تجاه قضايا المنطقة خصوصا لجهة ممارسة الضغوط على الإسرائيليين، وكذلك في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي الأسبوع الماضي عبرت الرياض عن غضبها بعد مطالبة منظمتين حقوقيتين دوليتين بتعليق عضوية المملكة العربية السعودية بمجلس حقوق الإنسان. وقالت البعثة السعودية في الأمم المتحدة في بيان «نشعر بانزعاج وغضب من بيان (منظمتي) العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش الذي يتهم السعودية بشن هجمات غير قانونية في اليمن.» وقالت المنظمتان إن السعودية لها «سجل مروع من الانتهاكات في اليمن في الوقت الذي تحظى فيه بعضوية مجلس حقوق الإنسان.» والسعودية الآن في العام الأخير من عضويتها التي تستمر ثلاث سنوات بمجلس حقوق الإنسان الذي يضم 47 بلدا. ويمكن لثلثي أعضاء الجمعية العامة (193 بلدا) تعليق عضوية أي بلد في المجلس الموجود مقره في جنيف لاستمراره في ارتكاب انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوق الإنسان خلال فترة العضوية.
وفي الوقت نفسه حث سبعة أعضاء بمجلس الشيوخ الأمريكي وزير الخارجية جون كيري على الضغط على حكومة البحرين كي تبذل المزيد لدعم الإصلاحات السياسية والاجتماعية فيما يزيد من مشاعر القلق في واشنطن في الآونة الأخيرة بشأن سجل البحرين في حقوق الإنسان. وقال الأعضاء في رسالة لكيري إنه ينبغي للولايات المتحدة الاستعداد لدراسة «عواقب ملموسة» منها إعادة النظر في مبيعات الأسلحة إذا استمرت حملة السلطات ضد المعارضة. وقال الأعضاء وهم ستة من الديمقراطيين وجمهوري واحد «تقاعس البحرين عن التجاوب مع الشكاوى المشروعة لمواطنيها سبب توترا في النسيج الاجتماعي للبلاد وشجع أطرافا من الخارج على استغلال تدهور الوضع.» وأضافوا «نعتقد أن الحملة الصارمة التي تشنها الحكومة على المعارضة السياسية تقوض استقرار البلاد وتصب في صالح إيران» وقالوا إنهم يشعرون «بقلق عميق». أما الأوضاع في البلدان الأخرى مثل سوريا وليبيا واليمن والصومال فتتطلب جهودا من نوع آخر.
هذه الوقائع تكشف أبعاد الواقع الجديد في العديد من الدول العربية التي كان بإمكانها تطوير أنظمتها السياسية وملفاتها الحقوقية، وعدم الاكتفاء باستخدام العصا الغليظة ضد مناوئيها. فهذه السياسة أدت لعدد من النتائج الخطيرة: أولها الاحتقان السياسي الذي يهدد بانفجار الأوضاع مجددا، على غرار ما حدث في 2011، الثانية: استمرار الضعف البنيوي لهذه الدول بما يهدد أمنها واستقرارها وقد يؤدي لتفتت الكيانات الكبرى من بينها، الثالثة: إحراج الحلفاء الغربيين لاتخاذ مواقف ضاغطة على هذه الحكومات، الأمر الذي ستكون له انعكاسات على التحالفات الدولية وعلاقات المنطقة بالغرب، الرابعة: أن غياب التوافقات الوطنية حول مشاريع الحكم والحقوق العامة وإقامة حكم القانون واحترام الشرائع الدولية، كل ذلك من سمات المجتمعات المضطربة التي لن تستقر حتى تحقق التغيير المؤدي للتحول الديمقراطي. ولذلك تعيش المنطقة مخاضات عسيرة، ليس معلوما بعد، ما إذا كانت ستؤدي لولادة سعيدة أم لإجهاض مؤلم وشقاء لا ينتهي. الأمر المؤلم أن الأوضاع ترجح احتمالات تكرر الثورات التي لا يستبعد أن تكون هذه المرة حاسمة وشاملة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/07/04