هل سيخرج الاتحاد الأوروبي من أزماته؟
يوسف مكي ..
لم يكن تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أول أزمة حقيقية يواجهها الاتحاد منذ تأسيسه، وإن كان هذا التصويت هو الأكثر وضوحاً بين تلك الأزمات. لكنه على رغم ذلك، ظل صامداً، مجسداً وحدة القارة الأوروبية، وتكاملها الاقتصادي والعسكري.
جاءت ولادة الاتحاد، استمراراً لعمل كبير، بدأت مسيرته إثر نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، حين تبنت الولايات المتحدة مشروع مارشال لإعادة بناء القارة التي دمرتها الحرب. وتزامن هذا المشروع، مع تأسيس حلف الناتو، ووضع أوروبا الغربية، تحت حماية المظلة الأميركية النووية. وقد وضعت تلك البداية اللبنات الأساسية، للوحدة في شقيها الاقتصادي والعسكري.
ذلك يعني أن دول أوروبا الغربية، حين قررت المضي في بناء السوق الأوروبية المشتركة لم تبدأ من الصفر، بل حلقت بجناحين قويين، هما مشروع مارشال، الذي أسس لبناء قاعدة اقتصادية متينة، في القارة، وبشكل خاص في فرنسا وألمانيا، حيث تعرضت الأولى لاحتلال مباشر من قبل الجيوش النازية، بينما عانت ألمانيا تدميراً ممنهجاً، وبشكل خاص، خلال السنوات الأخيرة، للحرب. أما حلف الناتو، فوضع القارة الأوروبية في شطرها الغربي، ضمن وحدة عسكرية قوية ومتينة، بقيادة أميركية.
ولن يكون ممكناً قراءة مسيرة الاتحاد، من غير قراءة التبعات الأخلاقية والنفسية لما خلفته الحرب الكونية الثانية من نتائج، وبشكل خاص بين الفرنسيين والألمان. وهما شعبان عانيا الانسحاق الإنساني، بفعل انهماكهما في حربين عالميتين مدمرتين، كانا في الحالتين، من ضحاياها المباشرين.
فقد كانت للحرب العالمية الأولى نتائج قاسية على الاقتصاد الأوروبي، في بلدان المهزومين والمنتصرين على السواء. وقد كان من نتائج اتفاقية فرساي، بعد الحرب العالمية الأولى، تقييد استقلال ألمانيا، والهيمنة على أجزاء إستراتيجية مهمة من ممتلكاتها. أما في الحرب الكونية الثانية، فالأمور كانت أسوأ بكثير، بالنسبة للأوروبيين جميعاً. وكانت من نتائج تلك الحرب، أن تخلت بريطانيا العظمى، عن بعض مناطقها، اقتصادياً لصالح النفوذ الاقتصادي الأميركي.
فبالنسبة لفرنسا جرى احتلالها، أما بريطانيا، فتعرضت مدنها لقصف جوي ألماني متواصل، وانتهت الحرب بتقسيم ألمانيا، حيث قسمت الحرب القارة، إلى شطرين، غربي التحق بالمعسكر الرأسمالي، واتخذ من بون عاصمة له. وشرقي، واتخذ من برلين الشرقية عاصمة، صار تابعاً للاتحاد السوفياتي، وجزءاً من الكتلة الاشتراكية، حتى سقوط حائط برلين في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
لقد انتهت الحرب ببروز نظام عالمي جديد بثنائية قطبية، عبرت عن حقائق القوة الجديدة. وقد تقاسم المنتصرون أوروبا ذاتها، حيث باتت تابعة لأحد القطبين: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.
وقعت أوروبا الشرقية بأسرها ضمن النفوذ السوفياتي، وحملت عقيدته الشيوعية، بينما خضعت أوروبا الغربية بأسرها لليانكي الأميركي، منفذة سياساته وبرامجه، ومشكلة عمقاً استراتيجياً له.
في ظل هذا الواقع، أدرك خصوم الأمس، فرنسا وألمانيا بشكل خاص، أنهم كانوا أول الخاسرين، من الجدار السميك للكراهية بينهم. وأن سبيلهم الوحيد لإنقاذ أنفسهم هو تحطيم هذا الجدار. وكان عليهم، لكي يحققوا ذلك أن يحاربوا على جبهتين، جبهة تتعلق بكيفية تجاوز عقدهم النفسية، مع بعضهم بعضاً، والثاني، هو كيفية بناء أوروبا قوية. لا تجعل منهم بلداناً خارج صناعة القرارات الدولية، بل تبقي القارة، كما كانت لعدة قرون، قلب العالم، وعنوان حركته.
لقد بات على أوروبا ترتيب بيتها الجماعي، واعتبار التصدي لمعضلات الداخل، مدخلاً للانطلاق الاقتصادي في العالم، وتجاوز المعوقات الثقافية والتاريخية والنفسية. وخلال العامين 1948 و1949، بدأت تتشكل أطر مؤسسية، أمنية واقتصادية، أنعشت الحلم القديم، في تحقيق الوحدة الأوروبية. ومن هذه الأطر حلف بروكسل، الذي وقعت عليه فرنسا وبريطانيا، العام 1948، والمنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي، ووقعت عليه 16 دولة، استفادت من مشروع مارشال. ومجلس أوروبا الذي وقعت عليه 10 دول أوروبية العام 1949.
لكن ذلك لم يغير كثيراً الفرنسيين والألمان، الذين يتطلعون إلى الدفع بمسيرة الوحدة، بوتائر أعلى من ذلك بكثير. لقد عالجوا أزمة الكراهية، باقتحام آلة الحرب ذاتها، وجعلها شراكة بينهم. فكان توحيد مؤسسات الحديد والصلب أولى خطواتهم على طريق بناء الاتحاد، لتحقق ذلك بعد فترة وجيزة، السعي لبناء السوق الأوروبية المشتركة، ثم لاحقاً بناء الاتحاد الأوروبي.
هل سيصمد الاتحاد الأوروبي، ويتمكن من الخروج من أزماته، أم أنه سيتفكك بالقريب العاجل؟
القراءة الموضوعية، تقول إن تأسيس الاتحاد الأوروبي، كان ضرورة تاريخية، لتأخذ القارة مكانها تحت الشمس. كما تشير إلى أن الأميركيين ساهموا بشكل كبير في وضع لبنات الاتحاد، من خلال مشروع مارشال والناتو. هل انتهت هذه الضرورة؟ أم أن الوعي بأهميتها قد تلاشى؟
واقع الحال، أن هناك اكتساحاً صينياً واسعاً للأسواق العالمية، وهناك عودة طاغية للنفوذ الروسي وتراجع لقوة النفوذ الأميركي، وليس من صالح أميركا، أن ينهار جدارها الصلب الذي اعتمدت عليه، قرابة سبعة عقود. والتاريخ لا تصنعه صناديق الاقتراع، بل حقائق القوة. لذلك فإن ما لدينا من معطيات، تجعلنا نؤكد أن ما جرى ليس سوى سحابة صيف، لكن مرحلة مراجعة نقدية لمسيرة الاتحاد ستبدأ منذ الآن وسيكون من شأنها إعطاء قوة جديدة لفاعليته.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/07/08