تركيا في عين العاصفة
قاسم حسين ..
لم يكن يخطر بالبال حين كتبت مقال الجمعة الأخير، «بن علي يلدريم»، أن بلاده تركيا ستكون في ذلك المساء مسرحاً لعاصفةٍ كبرى.
بدأت الأحداث مع إعلان يلدريم نفسه، حوالي الساعة الحادية عشرة مساء، أن هناك مؤشرات لحدوث عملية انقلاب، وخلال ساعة واحدة، كان الجيش قد انتشر وسيطر على عددٍ من المواقع المهمة في اسطنبول.
مع انتصاف الليل، كانت الصورة ترجّح نجاح الانقلاب، ولأهمية الحدث التقطتُّ مفكّرتي لأسجّل فيها التفاصيل التي تصل تباعاً، حيث بدأ تسرّب صور العسكر الساعة الحادية عشرة والنصف، وأكّدت المعارضة نجاح الانقلاب، ودخول جنود محطة التلفزيون الرسمي في العاصمة أنقرة، والسيطرة على مقر المخابرات.
وزير الخارجية الروسي لافروف صرّح عند الثانية عشرة وخمس دقائق، بأنهم يطلعون على ما يجري من خلال وسائل الإعلام، و"يجب الابتعاد عن إراقة الدماء". وبعد دقائق صرح نظيره الأميركي "نأمل أن يسود السلام في تركيا". لقد أوحى التصريحان بوجود نوعٍ من الترقّب إن لم يكن الارتياح، فأردوغان ليس بالشخص الذي يبلعه الروس، أما الأميركان فيرى الكثيرون أنه أصبح عبئاً على سياستهم في المنطقة.
عند الثانية عشرة والربع، دعا حزب العدالة والتنمية الشعب لمساندته، وأعلن وزير الخارجية جاويش أوغلو: "نحن أصحاب السلطة الشرعية، ولا يمكن لأحد إزاحتنا". وفي المقابل أعلن الجيش حظر التجوال وفرض الأحكام العرفية وإغلاق المطارات. وأعلنت رئاسة الأركان: "نسعى لاستعادة سيادة القانون وملتزمون بالاتفاقيات الدولية".
عند الثانية عشرة والنصف، ظهر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في اتصال بقناة فضائية عبر "سكايب"، مؤكداً أنه سيتجاوز ذلك، ودعا الأتراك إلى النزول إلى الشوارع. وفيما أشاهده يتكلّم عبر شاشة الهاتف، ألحت عليّ صورتان: هل سيتصرف مثل بوريس يلتسين؟ أم سيكون مصيره مثل محمد مرسي؟ وبعد عشر دقائق توقّف بث التلفزيون الرسمي. وعند الواحدة والربع بُثت مشاهد لإطلاق الجنود النار على متظاهرين في اسطنبول.
كان الجميع يتابع الحدث، الذي بدا مقدمةً لزلزال مقبل، قد يعيد صياغة السياسات والتوازنات في المنطقة. وكان أول مؤشر لاتجاه الانقلاب ما أعلنته مصادر عراقية، من صدور أوامر من الجيش التركي لقواته الموجودة في بعشيقة شمال العراق بالانسحاب، ما أشاع جوّاً من الفرح لدى بعض العراقيين، فنزل بعضهم مبتهجين، بينما دعا رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء للأمن القومي. أما البلد الآخر الذي يشعر بوطأة السياسة التركية وتدخلاتها في شئونه، سورية، فقد شهدت سماء دمشق ومدن أخرى "إطلاقات نارية"، حيث نزل آلاف السوريين ابتهاجاً بالانقلاب على من أسماه رئيسهم قبل أسبوع بـ "السفّاح".
إقليميّاً أيضاً، دعا الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للأمن القومي، أما مصر فلم يصدر عنها تصريحٌ.
عند الثانية فجراً، كان قد تم إلغاء 30 رحلة جويّة إلى تركيا، وتحويل بعضها إلى مطارات دول أخرى. وعند الثانية والربع، أعلن عن عمليات اعتقال متبادلة بين الطرفين، وإسقاط طائرة مروحية للإنقلابيين. وفي المقابل، أعلن مقتل 17 شرطيّاً في مقر الوحدات الخاصة بأنقرة، والقبض على عشرات الجنود، وهو ما أوحى بوجود خلافاتٍ بين الجيش والشرطة (الجندرمة)، فضلاً عن انشقاقٍ في الجيش نفسه.
عند الثانية و40 دقيقة، نقلت الـ"بي بي سي" عن وزير الداخلية انتهاء الانقلاب، وبعد خمس دقائق تعرّض مبنى البرلمان في أنقرة للقصف. وعند تمام الثالثة أعلن بن علي يلدريم أن "الوضع تحت السيطرة إلى حد كبير"، وأن التمرّد تقف وراءه حركة فتح الله غولن. وعند الرابعة بثت مشاهد لمتظاهرين يستقبلون أردوغان في اسطنبول.
أربع ساعات عاصفة ضربت تركيا على حين غرةٍ، كانت تنذر بانقلاب كبير في المنطقة يتجاوز حدود تركيا، وهي حقيقة أشار إليها رئيس الوزراء السابق داوود أوغلو، بتصريحه لـ"الجزيرة"، حيث حذّر من "تداعيات نجاح الانقلاب"؛ لأنه سيؤدي إلى "انقلابات أخرى في المنطقة".
إنها منطقةٌ هشّةٌ، ديمقراطياتها هشّة، أوضاعها السياسيّة هشّة، اقتصادياتها هشّة. وعند الصباح تكشّفت العاصفة عن مقتل 161 شخصاً، وإصابة 1440 آخرين، مع اعتقالات واسعة شملت 1563 عسكريّاً مشاركين في الانقلاب.
لقد تجاوز أردوغان الانقلاب، لكن هذه العاصفة التي ضربت تركيا ليلة صيفٍ، ستترك آثارها، سلباً أكثر منها إيجاباً، على سياساته في الداخل والخارج.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/07/17