رجالٌ حول الحسين
من مفارقات التاريخ الإسلامي، إنه بعد خمسين عاماً من رحيل الرسول الأعظم (ص)، وجد المسلمون أنفسهم أمام مفترق طرق: بين الدولة العادلة التي يحكمها نظام الشورى واحترام رأي الناس، وبين نظام إمبراطوري يحكمه الاستبداد والتفرد بالرأي.
مع انتصاف القرن الهجري الأول، كانت الساحة السياسية قد أُخلِيَت تقريباً من المعارضين، ولم يتبق من الرعيل الأول من الصحابة إلا أسماءً معدودة. بعضهم استشهد في الفتوحات أو الحروب الداخلية بين المسلمين، وبعضهم تقدّم به العمر، وبعضهم وافاه الأجل المحتوم. وكان أن نشأ جيلان خلال هذه الفترة، لم يعركهما الجهاد، ولم يتشرّبا مبادئ وقيم الثورة الأولى، وهكذا لم يجد قائد الثورة معه إلا القليل من أصحاب المبادئ والزاهدين في الدنيا، ممن بقوا على العهد.
كان هؤلاء عملةً نادرةً، ولذلك كان يصفهم الحسين (ع): «فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي». كانوا نخبةً اصطفتهم اليد الإلهية من الأحرار الأبرار، ليرى العالم بعينيه أشرف وأطهر وأنبل الناس. لقد بُعثوا ليجدّدوا سيرة الصحابة الأوائل، ممن نصروا محمداً (ص) وقاتلوا تحت لوائه، وبُعث هؤلاء ليجدّدوا الروح في هذا الدين تحت لواء الحسين.
من أبرز هؤلاء كان حبيب بن مظاهر، زعيم بني أسد، وهو شيخٌ جليلٌ متقدمٌ في السن، عاصر الرسول الأعظم (ص)، وحضر حروب الإمام علي (ع) في العراق والشام، وكان بعد كل حرب يسأله عن الشهادة، فيجيبه عليٌّ: ستنالها يا حبيب. كان من النوع الطاهر النقي، يعيش مع البشر لكن قلبه معلّقٌ بالملكوت الأعلى، وحين لاحت الفرصة لتصحيح الأوضاع المنحرفة كان من المبادرين للالتحاق بالثورة.
كانت الكوفة في تلك الفترة قد تحوّلت إلى معسكر كبير مغلق، يصعب الدخول والخروج منه، حيث ينتشر الجواسيس ويدب الرعب في السكك والبيوت، وتنتعش صناعة السيوف والرماح استعداداً لقتال الحسين. وكان حبيب يريد أن يخفي تحرّكه ليفلت من الحصار ويلتحق بقافلة الثوار، وقد لحق بهم في اليوم السادس من المحرم، كما يقول الخوارزمي. وفي اليوم التاسع خرج هذا العابد الزاهد، التقي النقي، إلى القوم الذين أحكموا الحصار على القافلة وخاطبهم بقوله: «أما والله لبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه (ص) وعترته وأهل بيته، وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً».
كان في مواجهة جيشٍ لا يملك قيمةً ولا شرفاً ولا مروءة، وهو ما تكشّفت عنه واقعة الطف من جرائم وفظاعات في اليوم العاشر. وبعد مقتله اختلف فيه اثنان من الأوباش كلٌّ يدّعي أنه قتله وقطع رأسه، تنافساً في الجريمة بغياً وعتواً، وطمعاً في الجائزة الموعودة للقتلة. وكان لحبيبٍ (رض) ولدٌ لم يبلغ بعد، فتتبع القاتل ليسترجع رأس أبيه ليدفنه، فأبي وقال: «لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً»، فلم ينجح الابن في سعيه، حتى ثار الزبيريون على الأمويين بعد عشر سنوات، فدخل ابن حبيب في معسكر مصعب فوجد قاتل أبيه فقتله. كان يقاتل مع الأمويين، والآن يقاتل ضدهم، كالبهيمة المعلوفة يدور مع المال حيثما دار.
الكاتب: قاسم حسين
المقال لصالح صحيفة الوسط البحرينية.
أضيف بتاريخ :2015/10/21