البحرين «تشتري» الفوضى
عبد الله زغيب ..
لم تبدُ مملكة البحرين على هذه الشاكلة من التخبط من قبل. فالأرخبيل الصغير عاش طوال السنوات الخمس الماضية حالة من الاضطراب المجتمعي والأمني «المقنّن» إلى حد بعيد، تمكنت فيه «التكتلات» المعارضة من إنتاج تصنيفاتها الخاصة، وكذلك صناعة خريطة سياسية واضحة المعالم بشكل مقبول. وكل ذلك استناداً إلى عناصر أساسية كوّنت مجتمعة ما يمكن وصفه بالمشروع السياسي «المنطقي» في ظل العناصر المكونة للواقع البحريني، سواء من ناحية دوافع «الحراك» الذي تقوده المعارضة، أو حتى على مستوى الرؤية المتمحورة حول «نهائية» البحرين وضرورة «إصلاحها» ما أمكن، في سياقات سياسية ودستورية تكفل انخراطاً «مقبولاً» من غالبية القوى السياسية في أدوات السلطة الحاكمة، خاصة على المستويات التشريعية وما يمكن الوصول إليه من تفاهمات على مستويات السلطة التنفيذية. علماً أن ذلك يتطلب قبول غالبية الأطراف المعارضة ضمناً أو بشكل مباشر وواضح بمخرج «الملكيّة الدستورية».
على الضفة الأخرى، واظبت العائلة الحاكمة بأذرعها المتنوعة العمل ضمن سياقين واضحين. الأول كان معنياً بالسير في طريق «الحل» الأمني، وما يعنيه من ملاحقة مستمرة للعناصر الناشطة على مستوى الحراك المدني المعارض. جاء ذلك بقصد ضرب القدرات اللوجستية للمعارضة في تحريك الشارع ضمن سياقات منظمة ومخطط لها. في هذا الإطار جاء التركيز على الشبان والشابات الناشطين في الشـــارع وعلى وسائل التواصل الإجتماعي، بالتوازي مع استهداف منظم للنخبة السياسية المعارضة من قادة جمعيات ونواب سابقين ورجال دين كالشيخ علي سلـــمان، الذي تجتمع فيه الصفات الثلاث هذه، إضافة إلى «رموز» آخرين للمعارضة وللحراك الشعبي الاعتراضي كحسن مشيمع الأمين العام السابق لحركة «حق»، والشيخ عبدالجليل المقداد وعبدالوهاب حسين وغيرهم، فضلاً عن إدخال «النشطاء» الحـــقوقيين في دوامة لا تنتهي من الاعتقال، وآخرهم نبــــيل رجب، أو الإفراج والمنع من السفر. وهذا يعني من وجهة النـــظر الأمنية داخل الجـــهاز الحاكـــم تضييقاً ناجعاً في سبـــيل «احتواء» المنابر المعارضة في الداخل، وما أمكن من ذلك في الخارج.
جاء السياق «النظامي» الثاني أكثر قدرة على التأثير من الناحية النظرية. فقد أدار النظام الحاكم عمليّة سياسية تفاوضية شديدة التعقيد، تقوم على عدد من العناصر غير الناضجة ولا المهيّئة للوصول إلى «مخارج» ممكنة ومتاحة. إذ ارتكزت المنامة في عملها السياسي هذا على محاولة «تمييع» المبادرات الخارجية في قالب من العروض غير المنطقية، التي تم تقديمها دائماً للمقبل على البحرين من الخارج مع محفظة وأجندة، كآخر العروض التي نُقلت لجمعية «الوفاق» المنحلّة، وهي أكبر تنظيم معارض في البلاد، ومفاده ضرورة إجراء «الوفاق» تغييرات في هيكلها القيادي، كاستبدال علي سلمان بشخصية أخرى أكثر «مقبولية» لدى العائلة الحاكمة. وقد حصل هذا في الوقت الذي تتعرض فيه النخبة المعارضة المعتقلة في «سجن جو» المركزي ومن يدور في فلكها لحملات شبه يومية من «العصف الذهني القسري» من جانب إدارة السجن وسياسيين وأمنيين، ضمن سلة تهديد وترغيب متكاملة، يتم السعي من خلالها للوصول إلى «حلول» و «مخارج» مرضية للمنامة، وفي الحد الأقصى ثني المعتقلين عن آرائهم تحت الضغط.
على هذه الشاكلة «الفوقيّة» في الأداء السياسي وكذلك الأمني جاءت خطوات النظام البحريني التراكميّة لتفتح البلاد على سلة مختلفة من الاحتمالات غير الخاضعة لحدود القوة والتأثير التي يمتلكها الجهاز الحاكم. إذ إن نظرية «التفوق» التي تنشط المنامة على أساسها تقوم على عناصر غير ثابتة وشديدة التعقيد، خاصة أن ركيزة «الصمود» الأولى تقوم على طبيعة الجهاز العسكري المصاحب للنظام الحاكم، الذي يتكون بغالبيته من مجنسين وأجانب. فيما تغيب مكونات اجتماعية وثقافية بحرينية واسعة عن الانخراط في صفوف القوات المسلحة بفعل حظر تاريخي غير معلن. وهذا يعني الحفاظ الحكومي على خلل إستراتيجي كامن، مفاده قيام الدولة على انسلاخ بين المكون الشعبي والمكون الأمني، يضاف إليه انسلاخ النخبة الحاكمة عن قسم كبير من مجتمعها.
وبالتوازي مع عملية بناء القدرات «الذاتية» للنظام، عمل الأخير على استثمار الحاجة الغربية الدائمة للبحرين كمنصة بحرية إستراتيجية في منطقة الخليج، حيث ذهب إلى نهاية المطاف في عملية الاستثمار هذه، لعلمه بأنه يتمتع بقبة حمائية حقوقية وسياسية بفعل قوة حلفاء الخارج، وفي مقدمهم المملكة المتحدة. كما تمكنت المنامة من خلق دينامية «منعشة» للعلاقة مع السعودية، على اعتبار أن سياستها الخارجية لا تحيد عن الخطوط السعودية بل تتسابق معها في بعض الأحيان. وهذا يفرض تموضعاً إقليمياً يتجاوز وزن البحرين وقدرتها، ويفتحها، كما يحصل الآن، على احتمالات تصعيد ذات امتدادات لا علاقة لها بطبيعة الأزمة الداخليّة، بل تقوم على استثمار «الأخطاء» التي تراكمها المنامة في سبيل الحفاظ على مكاسب تعتبرها العائلة الحاكمة «تاريخية».
على هذا المنوال من الثقة استكمل النظام البحريني الحاكم عملية «الثورة المضادة» التي أطلقها مع رفع محكومية زعيم المعارضة علي سلمان الى تسع سنوات نهاية أيار الماضي، ثم الانتقال إلى عملية اعتقالات وتوقيفات واسعة استهدفت رجال الدين، وكذلك منع أكبر صلاة جمعة في البحرين في منطقة الدراز بإمامة العلامة محمد صنقور، إلى أن جاءت الخطوة الأثقل حتى الآن، والتي تمثلت بإسقاط جنسية الشيخ عيسى قاسم، أحد أكبر المقامات العلمية الدينية في دول «مجلس التعاون»، ثم الادعاء عليه أمام القضاء بمجموعة تهم لا تمتّ الى دوره بصلة. وهذه كانت الخطوة الممهدة لضرب رأس المعارضة البحرينية من خلال قرار حل جمعية «الوفاق» ومصادرة أموالها في السابع عشر من تموز. وبهذا تكون عملية سحق المعارضة من الأعلى نزولاً قد اكتملت من وجهة نظر المنامة، بانتظار خطوات تصعيدية مصاحبة تخضع اليوم لعملية معقّدة من التفاوض، قد يكون من نتائجها الإحضار القسري للشيخ قاسم إلى المحكمة أو حتى طرده من البحرين كما حصل مع عشرات المعارضين.
لقد استبعد النظام البحريني الحاكم العناصر غير الخاضعة لنفوذه ونفوذ حلفائه، مع فائض الاستشعار بقوة العناصر «الرديفة» من حلفاء الخارج كالسعودية وبريطانيا. لكن الخطأ القياسي الذي ارتكبه تمثل في إعادة إنتاج «الثورة» البحرينية كقضية ذات امتدادات عربية وإسلامية، وذلك من خلال استهدافه للشيخ قاسم، وما تسببه ذلك من استفزاز للمرجعيات الدينية الجعفرية في أماكن مختلفة من العالم، وفي النجف العراقية وقم الإيرانية قبل أي مكان آخر. ما يعني ضمناً تحوّل «آية الله» قاسم إلى دائرة اهتمام ذات بعد «طائفي». إذ بدا الاستهداف كآخر حلقات سلسلة الاضطهاد القائم على هذا الأساس، بفعل طبيعة ودور وهوية ومقام المستهدفين. وهذا ما أظهر فشلاً في تقدرير الموقف أدى إلى «أسلمة» القضية البحرينية بعدما كان النظام قد تمكن بمساعدة أصدقائه من منع «تدويلها».
تنفتح البحرين اليوم أكثر من أي وقت آخر على احتمالات تصعيد متنوعة. فالأزمة تحولت بفعل الضرب المتواصل على رأس المعارضة إلى قطيعة شبه نهائية بين النخبة الحاكمة وغالبية المكونات الاجتماعية الداخلية، خاصة أن «الخطابة» الحكومية تواصل التركيز على عناوين تتجاوز طبيعة الأزمة كالحفاظ على الأمن وعناوين أخرى تتماهى مع السياق الخارجي كارتباط المعارضين بالخارج. لكن «الثورة المضادة» كانت بمثابة الرصاصة القاتلة لإمكانات حصول اختراقات في سياقات مختلفة، ومنها التقاء المعارضين بالنظام على خطوط أوليّة للحوار نحو حلول «إصلاحيّة» متكاملة. فاستهداف الشيخ قاسم يفرض بطبيعة الحال ردوداً تتجاوز حدود تأثير النظام وكذلك المعارضة. وقد يتسبب بخروج تكوينات ناشطة وأساسية في البحرين من «قبضة» الشيخ وما تفرضه من «اتزان» و «رصانة» في الأداء السياسي والإعلامي والجماهيري قبل أي شيء آخر. فمهما بدا التضامن معه مكثّفاً ورومنسياً، يظل التغييب القسري للأطر التنظيمية المعارضة، وكذلك محاولة «إسكات» المنابر الدينية (بما أنها الوحيدة المتاحة)، ممهدين لمجمـــوعة متكاملة من «البدائل» التي قد تأخذ الحراك أو جانباً وازناً منه نحو «اتجاهات» أكثر «راديكاليّة».
صحيفة السفير اللبنانية
أضيف بتاريخ :2016/07/29