آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
مجاهد عبد المتعالي
عن الكاتب :
كاتب سعودي

قضايا ميكروسكوبية بعين التلسكوب

 

مجاهد عبدالمتعالي ..

الحضارة رحلة إنسانية يقودها العقل، وليست رحلة بشرية تقودها الغريزة بمبررات دينية تطارد الحور العين لتفجر مسجدا هنا وحسينية هناك، الحضارة الإنسانية مددها كل المنتج الروحي للعالمين

 

أنا ضد قيادة المرأة للسيارة، أنا مع قيادة المرأة للسيارة، أنا مع وجود سائق للمرأة، أنا ضد وجود سائق مع المرأة، أنا مع عباية الكتف للمرأة، أنا مع عباءة الرأس للمرأة، أنا مع النقاب، أنا ضد كشف العيون بالنقاب، أنا مع عمل المرأة كاشيرة، أنا ضد عمل المرأة كاشيرة، أنا مع جواز كشف الوجه، أنا ضد جواز كشف الوجه، أنا مع تواجد المرأة في المحاضرات والندوات التي تبحث قضايا النسوية عندنا، أنا ضد تواجدها في أي قضية نسوية يتم نقاشها، الرجال فقط هم المخولون لنقاش قضايا الحقوق النسوية الجندرية!! (ليست مزحة فقد أقيمت ندوات تناقش قضايا المرأة دون مشاركة المرأة).

 

أثافي الأزمة الاجتماعية تكمن في ثلاثي مكون من (مع، ضد، أنا) ولا زلت أذكر تلك الشاعرة في أحد البلدان العربية عندما تذمر أحد الحضور منها وقال لها: هل من التحضر أن تلبسي بهذه الطريقة التي لا تليق (طبعا لا يليق وفق معياره الشخصي)، هل التحضر هو في هذا اللبس..... الخ، وكانت إجابتها درسا راقيا في الحضارة، إذ قالت له: التحضر ليس في اللبس بل التحضر هو في احترام حريات الآخرين في ما يلبسون.

التماسك الاجتماعي ليس في الاصطباغ بلون واحد في المسائل الذوقية والتي مصدر تقييمها الذات، التماسك الاجتماعي هو في مراعاة القانون العام الذي تفرضه الدولة فقط، وما عداه فمزاج خاص قد تلتزم به في مدينتك ولا تلتزم به في مدينة أخرى، يقول أحدهم: (أنا من منطقة كذا، ولا أستطيع أن يراني الناس بقميص وبنطال في كامل مدينتي، ولكني لا أجد حرجا في لبس البنطلون إذا سافرت إلى خارج منطقتي "لأننا معقدين يا خي"، وعائلتي تأخذ راحتها أكثر إذا خرجنا خارج السعودية)، لكن لا لوم عليه فقد صدرت الفتاوى من منطقته في زمن مضى تحرم لبس البنطال إلا للضرورة كالعسكريين ومن في حكمهم.

 

القضايا على نوعين، نوع ملموس ويمكن قياسه وقياس نتائجه، ونوع لا يمكن قياسه ولا قياس نتائجه، فالنوع الأول نستطيع أن نحكم عليه بكلمة صواب وخطأ، أما النوع الثاني فليس في حقه إطلاق صح أو خطأ، فقطع الإشارة خطأ، والالتزام بأنظمة المرور صواب، وأثره ملموس على النفس كإحدى الضرورات الخمس التي قررتها الحضارات القديمة، وعلى أساسها يقول الإمام الشاطبي أن الشريعة أتت أيضا لترعاها كما رعتها الحضارات الأخرى، لكن الفهم الحضاري للضرورات الخمس يختلف من حضارة إلى حضارة، ومن زمن إلى زمن، فالحضارة القديمة لم تعترف بالمساواة الإنسانية، إذ كانت ترى نفس العبد لا تساوي نفس الحر، وترى العبد الهارب بحثا عن حريته مجرد عبد آبق آثم يستحق العقوبة، وتطورت الحضارة الإنسانية لتجرم الرق من أصله، فتمنع الاتجار بالبشر تحت أي مبرر، وتساوي بين الناس، ولهذا نجد الحضارة الإنسانية الراقية فهمت حفظ النفس وفق التجربة الإنسانية الأرقى التي تتناسب وتطور التجربة الإنسانية في معايير حقوق الإنسان الحديثة، وكذلك حفظ الدين وفق العصور الوسطى مثلاً كان يقتضي من أوروبا نفسها أن تتقاتل لمدة ثلاثين عاما بين بروستانت وكاثوليك، وقبلها كانت الحروب الصليبية بين مسلمين ونصارى، وكل هذا انتهى لتكتشف الإنسانية فهما جديدا لمعنى حفظ الدين وفق الدلالة القرآنية في "لا إكراه في الدين" التي تلتزم بها الدول الغربية بشكل حرفي أكثر مما تلتزم بها كثير من الدول الإسلامية، لتجد النظام العام في بريطانيا مثلا يحفظ دين المسلم والهندوسي والمسيحي بلا تفرقه سوى في تفاصيل صغيرة يحاول أن يضخمها (دجالو المعرفة وسادة المغالطة) كي يخدروا بها مجتمعهم فيقولوا: لا فرق حضاريا بيننا وبين العالم الغربي على مستوى حقوق الإنسان.

 

ومما يؤلم أن تجد المهاجر المسلم الهارب من بلده فقرا وظلما يسافر إلى بريطانيا التي حفظت له دينه وشعائره عبر نظامها العلماني، ووفرت له حتى الضمان الاجتماعي لتتفاجأ به وقد حمل وسط لندن راية تطبيق الشريعة بدلا من النظام العلماني الذي حفظ له دينه، ليستعيد بذلك حروبه الصليبية بلا حياء ولا خجل، عاجزا عن رؤية الفجوة الحضارية بين توحشه ومدنيتهم التي تجاوزت الحروب الدينية، ولترى المسلمين حتى في بريطانيا يحملون معهم من بلدانهم الأم معاركهم الغبية حول هذا سني وهذا شيعي، ولتجد في داخل الكتلة السنية هذا سلفي وهذا أشعري صوفي، ولتبدأ معركتهم الداخلية عبر الشتائم لهذا قبوري وذاك حشوي.... إلخ.

الحضارة ليست مدنا أسمنتية تعيش وقار القبور، الحضارة شعب يحب الحياة، الحضارة فردانية وتنوع يقبل كلمة (لا) وليست أحادية بدائية تهز رأسها (بنعم) ضمن القطيع، الحضارة مواطنون وليست رعايا، الحضارة نظام وقانون على الكبير قبل الصغير، وليست شريعة الغاب للقوي ذي الهيئة تقيل عثرته إذا أجرم، وتقتص من الضعيف إذا أخطأ، الحضارة رحلة إنسانية يقودها العقل، وليست رحلة بشرية تقودها الغريزة بمبررات دينية تطارد الحور العين لتفجر مسجدا هنا وحسينية هناك، الحضارة الإنسانية مددها كل المنتج الروحي للعالمين من أقصى معابد بوذا في التبت مرورا بالهندوسية في الهند إلى أقصى كنيسة في كندا وبينها مليار مسلم، يعيشون تنوعا عرقيا ومذهبيا بشكل يتجاوز إدراك الأقلية الضئيلة المعتوهة بيننا التي آذتنا وشوهت الدين بنزاعاتها العقائدية الطائفية، وسط ستة مليارات إنسان غيرنا، وبهذا نتواضع لنرى المشهد كما يليق بنا كدعاة لحوار الأديان والحضارات لا صدامها، لأننا فعلا الخاسر الأكبر، ومن لم يربه أبواه رباه الزمان دما من رأسه والحجر من الأرض.

 

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2016/08/15

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد