في معوقات النهوض العربي
يوسف مكي ..
حين تحركت أساطيل الغرب لتحتل أجزاء واسعة من البلدان العربية، عندها تكشف للعرب، ولدعاة التنوير، زيف وعنصرية ادعاءات الغرب بالحرية والمساواة
كان السؤال الرئيسي، ولا يزال لدى المفكرين العرب، مرتكزا على مقاربة واقعية بين الغرب الذي سطعت عليه شمس الحضارة، وولج في ثورات علمية عدة، آخرها الثورة الرقمية، وبين حال العرب الذي استمر غارقا في نوم طويل، منذ احتل المغول عاصمة العباسيين. لماذا تقدم الغرب وفشلنا نحن؟
وكان السؤال ومحاولة الإجابة عنه، محورا لجل المناقشات والإبداعات الفكرية، والمصنفات النظرية التي برزت منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومطالع القرن العشرين، وتواصلت بقوة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. وحول الإجابة عنه، انقسم المفكرون، بين من رأى العلة، في الثبات الفكري والتوقف عن الحركة والخلق والإبداع، وأن السبيل هو القطع النهائي مع الماضي، وبين من قال إن العلة تكمن في الابتعاد عن جوهر العقيدة السمحاء التي تدعو إلى التسامح والعدل والعمل.
وفي كل تلك الحالات التي بذلت للخروج من حالة الانسداد التاريخي، تحضر بقوة، المقاربة بين ما أنجزه الغرب، من تقدم علمي وسياسي على كل الأصعدة، وبين عجزنا عن اللحاق بحركة التقدم. وغاب في حينه، أن الغرب أشاد حضارته بالعلم والمعرفة والتقانة والانتصار لدولة الحق والقانون.
لم تكن هذه المقاربة الفكرية العربية، من باب الرياضة الذهنية، بل فرضتها الحاجة لتجاوز واقع مأزوم، وحالة وهن عاشتها الأمة. وفرضتها علاقتنا اللامتكافئة، بحسب تعبير سمير أمين، بالأمم الأخرى المتقدمة.
لقد فرضت قوة التحولات العلمية والحضارية التي شهدتها القارة الأوروبية نفسها على العالم بأسره، وبلغت أصداؤها وتأثيراتها كل ركن من أركان المعمورة، ومن ضمنها البلدان العربية. وكان الصراع الذي تعرضت له دول القارة، قد دفع بعناصر صنع القرار هناك إلى محاولة تصدير الأزمات الداخلية التي تعانيها إلى الخارج.
في هذا السياق، كان لمصر العربية نصيب كبير من قرار تصدير الأزمة الداخلية الفرنسية إلى الخارج، ففي عام 1798 كانت الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون على مصر. وقد جاءت الحملة العسكرية معززة بقناع أيديولوجي، هو مبادئ الثورة في الحرية والإخاء والمساواة، مسرعة في الاتصال العربي بالغرب، وبمبادئه ونظمه السياسية الحديثة.
ولا شك أن محمد علي باشا أسهم في تعزيز انفتاح العرب على عصر الأنوار الأوروبي، بإرساله بعثات مصرية للدراسة في جامعات فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، والتخصص في مختلف العلوم التطبيقية والنظرية. كما أسهم في التنبيه إلى أن تنمية مصر تقتضي عدم تقوقعها داخل حدودها. وفي عهد الخديوي إسماعيل استؤنفت البعثات العلمية إلى فرنسا.
كان برتراند بادي أستاذ علم الاجتماع الفرنسي قد أصدر كتابا بعنوان (الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام)، طرح فيه ذات السؤال، لماذا تطورت الدولة في أوروبا من واقعها القديم إلى دولة الحداثة، دولة القانون والمؤسسات؟ ولماذا لم يتطور مفهوم الدولة ومؤسساتها في العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي؟
لقد بزغت دولة المؤسسات في أوروبا نتيجة عملية تاريخية، أسفرت عن بروز مجال جديد في الحياة السياسية، مجال خاص بالممارسة في هذا الحقل. وكان من نتائج ذلك، بروز نظرية التعاقد التي بشر بها جان جاك روسو. أما البلدان العربي فإنها لم تشهد هذه العملية التاريخية، ولم تعرف صراعا بين المؤسسة الدينية وبين النخب الاجتماعية، بسبب عدم وجود مؤسسة دينية تملك القوة التي كانت تحظى بها الكنيسة الأوروبية.
ومن وجهة النظر هذه، فإن النخب العربية فشلت في استيراد دولة المؤسسات، سبب استمرار المجال السياسي، في هذه البلدان، مراوحا في مكانه الذي كان عليه بالقرون الوسطى. إن ذلك هو ما يفسر، تركز الحركات الاعتراضية بالبلدان العربية، في الحركات المتطرفة التي تتجه بمعارضتها ليس إلى السلطات السياسية، والنخب العصرية.
لقد فشلت تلك النخب، كما فشلت أيديولوجياتها المنقولة والمستوردة للحداثة السياسية الغربية، ولم يبق أمام الجمهور إلا موروثهم، ومن هنا كانت "الصحوة الإسلامية" المعاصرة.
لم يناقش هذا التحليل كيف بزغ التنوير العربي، ولماذا تراجع، وحمل السلطة السياسية العربية، سبب فشل مشروع التنوير، وذلك تحليل تعسفي. لأن الواقع التاريخي يدحضه. فمصر مثلا، مركز ثقل عصر التنوير، شهدت نظما سياسية، حاولت الدخول بقوة في مرحلة التنوير بآلياته السياسية. واصطدمت بهجوم غربي عنيف لإعاقة تلك العملية.
أين نضع محاولات تحديث مصر؟ وارتباط كثير من كتاب ومفكري عصر النهضة العربية بتلك المحاولات. لقد ترافق عصر التنوير بافتتان بالتجربة الأوروبية، ليس في بعدها العلمي والحضاري فقط، بل أيضا ببعدها السياسي، الصدمة السلبية العربية، مع مشروع التنوير، كانت صدمة سياسية بالدرجة الأولى، حين تحركت أساطيل الغرب لتحتل أجزاء واسعة من البلدان العربية. عندها تكشف للعرب، ولدعاة التنوير، زيف وعنصرية ادعاءات الغرب بالحرية والمساواة. وكانت نتائج الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى عوامل اقتصادية أخرى، مهمة، هي الضربة الأولى لمشروع التنوير.
في هذا السياق، يتساءل الدكتور محمد عابد الجابري، في "نقد العقل العربي"، عما كانت ستؤول إليه التحولات الأوروبية الحديثة، لو وجدت قوة خارجية تقمعها. كيف كان سيكون مسلسل التصنيع، والصراعات الاجتماعية، بدون المواد الأولية والأسواق الخارجية التي وفرها التوسع الاستعماري؟ وكيف سيكون حاضر العرب لو لم تتدخل أوروبا لقمع تجربة محمد علي باشا؟ كيف سيكون حال العرب اليوم لو لم تصنع أوروبا الكيان الصهيوني في القلب من الوطن العربي.
كل تلك الأسئلة وجيهة ومشروعة، تعري جدل العلاقة بين الصعود الكاسح لأوروبا وبقاء حالة التردي العربية على ما هي عليه، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سببا في إعفاء الذات، من مسؤولية التقصير.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/12/07