رشوة الموظف الحكومي
سطام المقرن ..
تتمثل الأسباب الحقيقية لرشوة كبار الموظفين في عدم وجود إقرار للذمة المالية للموظف الحكومي، وكذلك ضعف الشفافية وغياب المساءلة وضعف أنظمة الرقابة الداخلية في الجهات الحكومية
أشار الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الأستاذ محمد الشريف، في كتابه "النزاهة في مواجهة الفساد" إلى أن من أبرز مظاهر الفساد التي رصدتها "نزاهة" بعد إنشائها وأكثرها ظهورا في المجتمع هي "الرشوة"، والتي تعد من أكثر أنماط الفساد الإداري انتشارا في الجهات الحكومية، حيث يقول "الشريف" ما نصه: "تعد الرشوة من أبشع أنواع الفساد.. وتزداد ممارستها أكثر في مجال المنافسات وتنفيذ المشاريع والخدمات والتراخيص، وإسقاط المخالفات والإعفاء من الغرامات من قبل من بيدهم الأمر".
لا شك أن مجال المنافسات والمشتريات الحكومية يعد من أكثر المجالات التي تنتشر فيها "الرشوة" بالذات، وذلك لضخامة الاعتمادات المالية المخصصة لها، وتتمثل في أخذ العمولات المالية المقدمة للمسؤولين الذين بأيديهم توقيع العقود نيابة عن الجهات الحكومية التي يمثلونها، وتخولهم مناصبهم الوظيفية التوقيع نيابة عنها للصفقات وعقود الإنشاءات والمقاولات أو التوريد، وذلك بأخذ نسبة مئوية أو غيرها من قيمة الصفقة أو العقد.
في الماضي كانت الرشوة تتمثل في صور بسيطة، لا تتعدى تقديم خدمات حكومية تتعلق في الغالب بتخليص أو تسريع إنهاء المعاملات مقابل مبالغ مالية لا تتعدى مئات الآلاف من الريالات ويتم القبض على المرتشين عن طريق البلاغات، ويتم عمل كمين لهم خلال استلامهم لمبلغ الرشوة يدويا، ومع تسارع النمو الاقتصادي بدأت صور الرشوة تتخذ أشكالا معقدة، بحيث يصعب كشفها أو مكافحتها، فقد كانت تأخذ الرشوة في السابق بشكل فردي أما في وقتنا الحاضر فإن أخذ الرشوة أو العمولات يحتاج إلى فريق عمل يعملون كوسطاء بين المسؤول وبين المقاولين المنفذين للمشاريع، ما قبل الترسية وبعدها، وعند متابعة التنفيذ.
يرى بعض المسؤولين في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" أن أهم أسباب انتشار الرشوة في الجهات الحكومية يعود إلى الدخول المتدنية لبعض الموظفين، ولهذا "نجد أن الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد قد تنبهت إلى ذلك فنصت في الفقرة (د) من البند السادس على (تحسين مستوى رواتب الموظفين والعاملين وبخاصة المراتب الدنيا)، وذلك لكي لا يضطروا إلى مد أيديهم لأخذ الرشوة، وتبرز ممارساتها في مجال المنافسات، والتوريدات، والصفقات الكبيرة".
رغم الوجاهة المنطقية لرأي المسؤولين في نزاهة حول أسباب انتشار الرشوة، إلا أنها تتعلق فقط بصغار الموظفين، والذين في الغالب لا تتعدى رشوتهم بتذاكر سفر وإقامة في أفخم الفنادق في إحدى الدول الأوروبية أو مقابل امتلاك سيارة جديدة، وذلك ثمنا لصمتهم وغض الطرف عن بعض المخالفات أو الغرامات في المشاريع الحكومية، لكن ماذا عن كبار الموظفين والمسؤولين الذين قد يتقاضون عشرات الملايين من الريالات من خلال التلاعب والاحتيال على الصفقات الحكومية الكبيرة؟ فهؤلاء في الغالب من أصحاب الدخول الكبيرة، والسؤال المطروح هنا: ما الأسباب أو الدوافع الحقيقية التي تقف وراء رشوة كبار الموظفين؟ هذا السؤال لم أجد له إجابة في تصريحات نزاهة!
للأسف الشديد، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"نزاهة"، لا تتحدث في الغالب عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء رشوة كبار الموظفين في الجهات الحكومية، رغم أن هذه المشكلة ليست مشكلة الجهات الحكومية فحسب، ولكنها مشكلة المجتمع بأسره، ويصعب على الموظف الحكومي النزيه أن يعمل في مثل هذه البيئة، ويصعب على الشركة أو المؤسسة النزيهة أن تعمل في مثل هذه الأجواء.
لدينا الأنظمة والقوانين واللوائح التي تحرّم الرشوة، وتتضمن أقسى العقوبات على من يتجرأ من الموظفين الحكوميين على أخذها، أو المشاركة فيها، لكن تبقى هذه الأنظمة دون تحرّك أو تفعيل لدور "نزاهة" في هذا المجال.
تتمثل الأسباب الحقيقية لرشوة كبار الموظفين في عدم وجود إقرار للذمة المالية للموظف الحكومي، وكذلك ضعف الشفافية وغياب المساءلة، بالإضافة إلى ضعف أنظمة الرقابة الداخلية في الجهات الحكومية، هذه الأسباب مجتمعة تؤدي إلى وجود بيئة حاضنة للفساد والرشوة، كما أن سوء التنظيم الإداري وبيروقراطية الجهات الحكومية المتمثلة في ضعف القيادات الإدارية وتضارب اختصاصاتها وتضخم الهيكل الإداري والوظيفي، ونقص المهارات الإدارية والقيادية، فضلا عن القيادة المتخلفة والفاسدة، جميعها أسباب ودوافع تفسد بيئة العمل، وبالتالي فإن الفساد الكبير في الهرم الإداري يشجع الفساد الصغير في الإدارة الوسطى والتنفيذية.
تعتبر الرشوة من أخطر أنماط الفساد وأشكاله، إن لم تكن هي بوابة الفساد في الحقيقة، لذا من الضروري أن تبدأ نزاهة في التحري والتقصي عن ملف الرشوة في الجهات الحكومية، وذلك عن طريق حصر قضايا الرشوة في المحاكم القضائية، وكذلك في الجهات الرقابية الأخرى، بالإضافة إلى الشكاوى والبلاغات التي ترد إلى الهيئة، مع وضع مؤشر سنوي يقيس حجم هذا النمط من الفساد في المملكة، بالإضافة إلى التركيز على أسباب انتشار الرشوة، وكيفية مكافحتها من خلال دراسة كل قضية على حدة، وخاصة فيما يتعلق برشوة كبار الموظفين، ومن ثم رفع تقرير دوري بذلك إلى الجهات العليا في الدولة، على أن يتم تفعيل إقرار الذمة المالية للموظف الحكومي، فهذا الإقرار يعتبر مفتاح مكافحة الرشوة في الجهات الحكومية.. ولكن متى يتم اعتماد قواعد هذا الإقرار الذي تم إعداده من قبل "نزاهة" منذ وقت طويل؟
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/12/20