لا شيء يشي بالعكس
جميل المحاري ..
مع بوادر الأزمة النفطية وتسجيل الدول الخليجية عجوزات كبيرة في موازناتها العامة، ما اضطرها لفرض سياسات تقشفية ورفع الدعم عن عدد من السلع الاستهلاكية؛ ورفع أسعار المحروقات والطاقة الكهربائية، وما رافق ذلك من فرض رسوم إضافية؛ وحديثاً فرض رسوم على العمالة الأجنبية لقاء حصولها على الخدمات الصحية، وما يتم تداوله الآن من فرض رسوم على التعليم لغير المواطنين، كان من المتوقع أن تدفع مثل هذه الإجراءات لخفض أعداد العمالة الأجنبية بصورة دراماتيكية، كما توقّع بعض المحللين الاقتصاديين أن تكون هنالك هجرة مضادة ورجوع أغلب العمالة الأجنبية لأوطانها الأصلية نتيجة عدم قدرتها على العيش في مثل هذه الظروف الصعبة، ومع ذلك لم يكن الأمر بهذه السهولة.
حتى الآن لا تزال أعداد العمالة الأجنبية في ارتفاع مستمر، ولا تزال هذه العمالة هي المسيطرة بشكل مطلق على أسواق العمل في الدول الخليجية، وما كان يؤمل في أن يكون النقطة المضيئة الوحيدة في السياسات التقشفية، أي الإصلاحات الحتمية لأسواق العمل وتحوّل المنافسة لشغل الوظائف من صالح العمالة الأجنبية لصالح العمالة الوطنية قد تبدّدت ولم يعد هناك ما يمكن التفاؤل بشأنه.
يبدو أن العمالة الأجنبية قد تكيّفت مع إجراءات التقشف كما تكيّف المواطنون معها، كما أن النقطة الأساسية هي أن الدول الخليجية حتى وإن بالغت في فرض الرسوم الإضافية على العمالة الأجنبية تبقى أفضل من العودة للوطن، حيث انعدام فرص العمل والظروف المعيشية الأشد قسوة. كما أن هنالك طبقة كبيرة من العمالة الأجنبية استطاعت أن تخلق لها موطيء قدم من الصعب زحزحته في أسواق العمل الخليجية، من خلال هيمنتها على أغلب الأنشطة التجارية الصغيرة أو ما يسمى بـ (SMALL BUSINESS) من خلال استئجار السجلات التجارية من الباطن.
في ورقته التي قدّمها خلال المنتدى الفكري السنوي الثالث للمنبر التقدمي والذي عقد يوم الجمعة الماضي تحت عنوان «البنية الاجتماعية – الطبقية في مجتمعات الخليج العربي... السمات والتحولات»، حذّر الباحث الاقتصادي محمد الصيّاد ممّا أسماه بالتحوّل النوعي في توجهات قوة العمل الأجنبية، حيث «تحوّل قسم كبير منها إلى مبادرين وأصحاب رساميل يشغلونها في الإنتاج البضاعي الصغير، بما يعد خروجاً طبيعياً ومنفلتاً لرأس المال العمالي الأجنبي عن سيطرة الدولة وأجهزتها الرقابية».
وأشار الصيّاد في ورقته إلى «عملية سقوط أسواق البيع بالتجزئة وأسواق البيع بالجملة في البحرين الواحدة تلو الأخرى في أيدي العمالة الأجنبية، تماماً كما تسقط المواقع العسكرية في الحروب توالياً قبل السيطرة التامة على البلدات والمدن والبلدان، حيث بدأت العملية بسيطرة العمالة الأجنبية على سوق اللحم قبل أن تنتقل إلى سوق الخضار والفواكه وسوق بيع السمك والدواجن وسوق البقالات الصغيرة وسوق الذهب والمجوهرات وسوق الأقمشة والملابس الجاهزة، وهكذا وصولاً حتى آخر موقع من مواقع أفرع الأنشطة الصغيرة في الاقتصاد».
ويبدو أن الأمر لم يقتصر على الأنشطة التي ذكرها الباحث الصياد، ففي واقع الأمر فإن العمالة الأجنبية قد استولت تماماً على أغلب الأنشطة التجارية الصغيرة، بما في ذلك ورش تصليح السيارات والنجارة والأعمال الكهربائية وحتى المقاولات... مما خلق «طبقة متوسطة» في صفوف العمالة الأجنبية بدلاً من الطبقة المتوسطة الوطنية التي كانت تشغل هذه المهن أيام الطفرة النفطية، وتبقى القضية الأهم هل سيضطر المواطنون في المستقبل للعمل لدى العمالة الأجنبية التي استحوذت على جميع هذه الأنشطة التجارية، لا شيء يشي بعكس ذلك؟
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2017/02/28