العلف الأخضر
هالة القحطاني ..
في أحد الأزمنة السحيقة، كانت هناك بلدة جرداء صغيرة، تبدو لمن يمر بها خالية من ملامح الحياة، بعد أن هجرها غالبية سكانها ليسكنوا العاصمة، بحثا عن فرص وظيفية مناسبة. حيث كان لا يوجد فيها سوى شركة واحدة يطلق عليها (الرابية لتربية المواشي)، تهتم بتربية المواشي، والمحافظة عليها، لتوزيع منتجاتها في الأسواق.
في يوم غائم، طرأت لأحد موظفي تلك الشركة، الذي لم يتذكر أحد اسمه إلى الآن، فكرة عابرة لتطوير الأعلاف بعد أن شاهد دعاية (نحن ندلل أبقارنا). فنقلها «لفواز» رئيسه المباشر، موضحاً أن تقديم الأعلاف بطريقة مبتكرة، لم يسبقهم إليها أي من الموردين والمستوردين، سيجذب لهم زبائن من الداخل والخارج، وإذا تم تنفيذ حملة إعلامية ضخمة، ستضمن بذلك الشركة، الاستحواذ على سوق العلف بكل جدارة. وتتلخص الفكرة، بخلط العلف الأخضر مع الجاف، مع إضافة الكثير من الهرمونات، ومزجها ببشر البرتقال والليمون، وتغليفه في النهاية بورق شجر الليمون، وتسميته بالغذاء الفاخر للأبقار!
نالت الفكرة إعجاب «فواز»، رئيس المجموعة المسؤولة، عن المبيعات. فقام بتقديم الفكرة لمديره. بعد أسبوعين، تم تنفيذ الفكرة، التي نجحت بالفعل، بجذب بعض تجار المواشي في البلدان المجاورة. وفي منتصف السنة، ارتفعت المبيعات ارتفاعا طفيفا، فنال ذلك تقدير مديره فواز، وقام بترقيته، من رئيس مجموعة إلى رئيس قسم، في نهاية نفس العام انخفضت المبيعات.
شعر «فواز» بالقلق، فجمع موظفي القسم، وطلب منهم أن يأتوا بمزيد من الأفكار المبتكرة، وضغط على «جبران»، أحد الموظفين المخلصين، والحاصل على تعليم عال، ويتوسم فيه الذكاء، لتقديم فكرة تخدم ذلك التوجه. ولكن ما فعله «جبران»، خذل رئيسه، حيث قدم له تقريرا يوضح خطورة جنوح الشركة، عن مهمتها الأساسية، من تربية المواشي، لتطوير الأعلاف، وأن الشركة ليست بحاجة، لصرف كل تلك الميزانية الضخمة، من أجل تطوير تبن المواشي. وأرفق معه دراسة بالعجز، الذي بات يهدد ميزانية التشغيل، ورواتب العمال. بالإضافة إلى عدد المواشي التي نفقت، بسبب كمية الهرمونات العبثية التي تم علفهم بها. فغضب «فواز» وثار، واتهمه بالبلادة وعدم الإنتاجية، وتم تكليفه بمهمة جرد المخازن.
كان جبران نموذجا للإنسان المخلص مع نفسه، لم يتوقع أن يصطدم بواقع متناقض، أو يلتقي بأحلامه وطموحاته في شركة مواش، بعد أن أجبرته ظروف الحياة، على البقاء في تلك البلدة، لإعالة والدته وإخوته الصغار بعد وفاة والده. قلة ممن عمل معه، كانوا يعلمون أنه يملك، قدرا كبيرا من الحب والصدق والإحساس بالمسؤولية تجاه عمله.
في أحد الأيام بينما كان غارقاً في همه، طرأت له فكرة امتطاء الموجة، من أجل استعادة ثقة رئيسه. وفي اليوم الذي يليه، وضع على مكتب فواز، اقتراحا لتطوير «تبن البقوليات»، بإضافة نسب مركزة من البروتين له، وإغراقه بزيت الزيتون الخالص بعد كبسه، وتغليفه بورق الموز العريض ووضع ملصقات، تحمل عشرة أسباب، فوق كل حزمة، لتجعله أفضل بكثير من تبن الحبوب.
نالت الفكرة إعجاب فواز، فتم تنفيذها، وعين جبران في منصب رئيس مجموعة، شعر الأخير بأن الأمر أصبح حتمياً، ولابد أن تستمر عجلة الابتكار، فاقترح بعد ثلاثة أشهر، بعجن تبن القمح والشعير، بعسل نحل زهرة الأكاسيا، لتصبح شركتهم أول شركة، تتميز بتقديم تبن وأعلاف عالية الجودة. أدخلت هذه الفكرة السعادة على فواز، فخصص لها حملة إعلامية ضخمة، تشرح خصائص وأهمية ذلك المنتج لصحة المواشي. أثناء ذلك، كان موظفو الشركة، يقدمون تظلمات وشكاوى بسبب تأخر صرف رواتبهم.
لم يتوقف جبران عن الابتكار، بل دبت في نفسه الشجاعة، بعد أن صرفت له علاوة، حسّنت من دخله الشهري. فقدم طلبا لبناء صومعة للعلف ومعدات لتعقيمه، قبل تخزينه لحفظ القيم الغذائية، في أكياس بلاستيكية مفرغة من الهواء، لتستفيد منها المواشي استفادة كاملة.
واستمرت الحملات الإعلامية بالنمو، وتحولت إلى مقاطع دعائية مرئية، انتشرت على وسائل التواصل والقنوات الرسمية، تشرح لماذا يفضّل التقليل من كمية العلف، في فصل الصيف، من أجل المحافظة على صحة المواشي. وأُرسلت رسائل عن طريق الهواتف الخلوية، تشجع الناس على شراء العلف المعتق، لأن الأبقار والأغنام، تتقبله وتستسيغه أكثر من التبن الجديد. ونصح عملاءه، عند التغيير بين تبن الحبوب إلى تبن البقوليات، أن يقطع عن المواشي العلف يوماً كاملاً، لتشجيعها على تناول التبن الجديد القادم.
كان جبران يصاب بالهلع، في كل مرة يقدم فيها اقتراحا ويقابل سريعاً بالموافقة، ففي دخيلة نفسه، يعي جيداً حجم الأموال التي كانت تصرف، على مشاريع إعادة تطوير العلف (التبن). ولكن لم يستطع التوقف، بعد أن بدأ دخله بالارتفاع. كانت جميع تلك الأفكار الإبداعية، تضاف إلى سجل إنجازات «فواز»، الذي تحول في سنتين، من رئيس قسم، إلى مدير إدارة جديدة، تم استحداثها، للحفاظ على استدامة عملية تطوير العلف.
كان جبران نموذجا للإنسان المخلص مع نفسه، ولكن بعد أربع سنوات لم يعد كذلك، بل توقف تماما عن تطوير العلف، وتم إغلاق الشركة، وتسريحه مع بقية الموظفين، بسبب عجز الشركة عن صرف رواتب العمال أو إجراء أي عملية لتطوير التبن الجديد.
الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/03/26