سراب المعارضة السورية في الرياض
طراد بن سعيد العمري
يجتمع في مدينة الرياض السعودية، لفيف ممن يسمون أنفسهم أو أسمتهم الإدارة الأمريكية “المعارضة السورية المعتدلة”، في محاولة ومهمة شبه مستحيلة لجمع الكلمة وتنسيق الجهود وتشكيل وفد موحد يملك التجانس والتناغم والرؤية الإستراتيجية للجلوس مع الحكومة السورية في لقاء نيويورك القادم. لكن مع كل هذه الجهود، التي تحسب للسعودية في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية التي افتعلتها الإدارة الأمريكية وإستخباراتها وبعض حلفائها في المنطقة (تركيا وقطر)، إلا أننا نشك في إمكانية نجاح ما يسمى “المعارضة السورية المعتدلة”، كما ندحض مصطلح “المعتدلة” الذي ابتدعته أمريكا من دون أساس واقعي. وسبب الشك بسيط وهو أنه لا يوجد معارضة سورية ناضجة يمكن أن تصطف خلف هدف واضح يخدم سوريا الدولة والمؤسسات والمجتمع، ويساعد على الترميم بدلاً من التأزيم. ولهذا نجادل بأن كل ما نسمع ونرى هو “سراب المعارضة السورية” وليس معارضة سياسية حقيقية.
في الأصل اللغوي، سمي السراب سراباً لأنه يسرب (يجري) كالماء. وهذا ينطبق تماماً على “المعارضة السورية المعتدلة” التي يتم تسويقها ومنحها المشروعية من الدول المناوئة والمعادية للرئيس السوري والنظام والحكومة وفي مقدمة تلك الدول، الولايات المتحدة، بتنفيذ وإدارة دولتين في الشرق الأوسط هي تركيا وقطر، كل ذلك أملاً في صياغة دولة جديدة تتبع عرَّابها، مثل ما جرى للعراق تماماً قبيل وبعد العام ٢٠٠٣م. يضاف إلى ذلك، أنه لا ينطبق على معظم اللفيف الذي إصطف في الرياض مصطلح معارضة بالمعنى السياسي المتعارف عليه، فمعظمهم يمكن أن يطلق عليهم “منشقون” او “مهاجرون” أو “مشردون”، لكن ليس معارضة، فالمعارضة هي مجموعات و أحزاب معترف بها في الداخل السوري ينبت من النسيج الإجتماعي والسياسي السوري.
تجمع هذا اللفيف في المدن التركية وأحتضنهم نظام أردوغان، وحاولت قطر منح بعضهم الشرعية والمشروعية إعتسافاً بعد ما قاد وأدار وزير خارجية قطر السابق شئون جامعة الدول العربية (العجوز) بعيد انطلاق الربيع العربي، فطردت سوريا الدولة الشرعية والمؤسس من الجامعة العربية، وحل محلها اعتباطا ما سمي بالإئتلاف السوري في مؤتمر الدوحة، لدرجة أنه تم إطلاق وصف “الرئيس” على رئيس الإئتلاف في أحد الإجتماعات. لكن هذا من سخريات السياسة والساسة العرب. تنقل اللفيف السوري من تركيا إلى الدوحة إلى جنيڤ (١) إلى جنيڤ (٢)، إلى موسكو (١) وموسكو (٢) والقاهرة (١) والقاهرة (٢) ، وڤينا (١) وڤينا (٢)، تسارعت الأحداث وتبدلت المواقف وبزغ وأفل شخصيات بحسب تغير وتبدل رؤى بعض الدول التي ترعى وتتبنى بعض شخصيات اللفيف السوري، وهانحن نشهد قطار المعارضة يحط في الرياض.
حسناً، على هذا اللفيف المتنافر لدرجة التضاد في “المعارضة السورية” أن يفكروا أولاً وقبل كل شيء في مستقبل سوريا والشعب السوري، وأن يخفضوا توقعاتهم، ولا يكونوا كالببغاوات يرددون مطالب لا تستقيم مع الواقع السياسي أو المصالح الإستراتيجية الدولية والإقليمية، أو يطلقون اتهامات سقطت خلال الخمس سنوات الماضية، عمر الأزمة المفتعلة في سوريا. بمعنى أبسط، لا يسلمون عقولهم لمن يحرك ألسنتهم. على هذا اللفيف أن لا يرهقوا الرياض باختلافاتهم وسطحية بعضهم، فقد وقفت السعودية بصلابة من أجل الشعب السوري بالرغم مما تتلقاه من عنت في ذلك، كما فعلت السعودية في أزمات عربية وإسلامية مختلفة. والسعودية تفعل ذلك من استشعارها لمسئولياتها العربية والإسلامية. كما يجب أن يدرك الجميع أن لقاء الرياض أما نهاية أو بداية لمستقبل سوري مشرق.
لم تعد المطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد ممكنة أو منطقية أو قانونية، حتى لو كانت من قبيل الضغط ورفع سقف المطالَب لتحقيق تقدم في التفاوض. المزاج الدولي تغيّر وبدأ الغرب يتراجع عن تصريحاته العلنية برحيل الرئيس بشار الأسد، بل ذهبت أمريكا وفرنسا والغرب إلى المطالبة ببقاء الرئيس لمحاربة الإرهاب الذي إفتعله الغرب ومررته وبررته وساعدت في تمويله تركيا وقطر. رحيل الرئيس يعني بالضرورة تهاوي النظام والدولة ومؤسساتها، كما حصل في العراق، ثم ماذا؟ النتيجة الحتمية هي الفوضى والإرهاب والقتل والتدمير وانتشار العنف خارج الحدود. وصول العنف والإرهاب إلى خارج سوريا ودقه أبواب بيروت وباريس وسان برناردينو، كان جرس الإنذار الذي أجبر الغرب على التراجع عن قصته الملفقة حول الثورة في سوريا، ووحشية الأسد، والمطالبة برحيله.
يعلم كل فرد من لفيف “المعارضة السورية” أن حلفاء سوريا لن يسمحوا برحيل الرئيس وانفراط عقد الدولة. كما يعلم كل فرد منهم أن الدول التي سوقت الصداقة للشعب السوري إنما كان ذلك بناء على ما تنبأت به تركيا وقطر من أن سقوط النظام سيتم خلال أسابيع أو شهور مع بداية المؤامرة الغربية الإستخبارية على سوريا في العام ٢٠١١م. ويعلم كل فرد في هذا التجمع السوري الغير متجانس أن ما يقال في وسائل الإعلام ليس هو ما يقال في الغرف المغلقة وبين الساسة أنفسهم. وليعلم كل فرد ممن يطمح لفعل شيء إيجابي أن ليس هناك “معارضة معتدلة” بحسب الكذبة الأمريكية، فكل من يحمل السلاح ضد الدولة ونظامها الشرعي هو “إرهابي” في العرف والقانون الدولي. الأهم، أن يعرف الجميع أن كل من يطالب برحيل الرئيس صراحة، أو بشكل ملتوي مثل “لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سوريا”، وهي الأطروحة الجديدة التي إبتدعها الساسة لحفظ ماء الوجه، نقول أن كل من يتبنى أي من تلك الدعاوى، سوف لن يكون له مستقبل في سوريا وسيرفضه الشعب السوري.
هناك سبع حقائق يجب على “المعارضة السورية” إدراكها: (١) أن الرئيس بشار الأسد كان على حق في ما فعله تجاه المنظمات الإرهابية والجماعات المتطرفة؛ (٢) أن أمريكا ومعها الغرب لم تكن تحارب داعش بل كانت تغض الطرف عن كثير من ممارساتها وتمددها؛ (٣) أن تركيا ضالعة في دعم الإرهابيين وداعش تحديداً عبر ثلاث قضايا: (أ) التمرير، (ب) التموين، (ج) التمويل؛ (٤) أن قطر داعماً رئيسياً للفوضى على الأراضي السورية وأنها تتآمر على تقويض الدولة السورية؛ (٥) أن ليس هناك ما يسمى “معارضة معتدلة” بل وجيه متعددة للإرهاب كالقاعدة وداعش والنصرة والفتح إلى أخر تلك المنظومة؛ (٦) أن التعاطف مع الشعب السوري أكذوبة دولية لإضفاء شيء من المشروعية لإنتهاك السيادة السورية؛ (٧) أن لا أمل في تنحي أو رحيل الرئيس السوري الشرعي بشار الأسد إلا بما يقرره الشعب السوري. وهنا ننتقل إلى مثالين بإختصار، قبل أن نختم.
المثال الأول، هل تقبل تركيا أردوغان من دولة على وجه الأرض أن تسلح المعارضة الكردية داخل تركيا؟ هل تقبل تركيا أن تطالب دولة أو مجموعة دول برحيل الرئيس التركي لأنه يقتل جزء من شعبه ويحرمهم أبسط حقوقهم؟ هل تقبل تركيا أن تقوم دولة مجاورة أو غير مجاورة بتمرير الإرهابيين والأسلحة لجماعات متطرفة داخل تركيا؟ هل تقبل تركيا ان تقوم دولة مجاورة أو غير مجاورة باستضافة المعارضة التركية وتسليحها وتمويلها وتدريبها؟ المؤكد، أن الجواب على الأسئلة الآنفة الذكر هو النفي. إذاً، نحن أمام نفاق وكذب سياسي بامتياز تمارسه تركيا ورئيسها وحكومتها، تماماً مثل قضية “سيادة الدولة التركية” عندما أسقطت المقاتلات التركية طائرة السوخوي الروسية بحجة اختراقها المجال الجوي التركي. يالله العجب!!! أليست تركيا تخترق السيادة السورية بشكل شبه يومي، وبالأمس القريب اخترقت الحدود والسيادة العراقية؟
المثال الثاني، (١) في العلم العسكري هناك ما يسمى “الحرب الغير متماثلة”(Asymmetric Warfare )، وهي نسخة لما يحصل بين الجيش العربي السوري النظامي وبين الجماعات الإرهابية. في مثل هذه الحرب يذكر الخبراء أن إرهابي واحد يهدد حياة ما متوسطه (5) أشخاص، ويشرّد ويهجّر مجاميع بمتوسط (100) من المدنيين. ولو افترضنا أن في سوريا اليوم (100,000) من الإرهابيين، نستطيع عندها أن نستوعب حجم الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بالمجتمعات على إثر الحروب الغير متماثلة. هذه الأطروحة العسكرية تدحض كثير من الدعاوى والبروباغندا الغربية حول وحشية الرئيس والنظام والجيش العربي السوري. (٢) أكثر من (١٤) شهر والتحالف الأمريكي الذي يضم (٦٠) دولة يدّعي أنه يقصف داعش في ألاف الطلعات الجوية، إلا أننا لم نسمع عن قتل مدنيين على إثر تلك الطلعات والغارات، وكأن القنابل الأمريكية تحمل للمدنيين الورود، بينما الطيران السوري يحمل براميل البارود!!!
أخيراً، الآن حصحص الحق وكشف التدخل العسكري الروسي كذب وافتراء الولايات المتحدة وبعض أتباعها، كما أثبت سلامة وصدق المحاججة الرسمية السورية منذ اليوم الأول للمؤامرة الإستخبارية على سوريا. فعلى لفيف “المعارضة السورية المعتدلة” في الرياض أن يتذكروا أن قلم التاريخ يكتب وأن سوريا وشعبها يستحقان الكثير من التضحيات الوطنية الصادقة المخلصة بعيد عن التجاذبات والاستقطاب الدولي ونكران الذات. وأن السعودية تبذل ما بوسعها لعمل شيء مميز لسوريا وشعبها فليهتبل الجميع هذه الفرصة الأخيرة، و”الذي لا يدرك كله لا يترك جله”. ختاماً، أكبر دليل على تلاعب أمريكا بما يسمى “المعارضة السورية المعتدلة” هو أن لا أحد منهم يجرؤ على التصريح علناً بأنه “ضد إسرائيل”، وهذا هو المعيار الحقيقي لسياسة أمريكا في المنطقة الذي يتلخص في الحكمة الطرادية: “فتش عن إسرائيل”. حفظ الله سوريا.
كاتب، ومحلل إستراتيجي
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2015/12/07