مسلسل خليجي
عامر محسن
أكثر المواطنين العرب يتابعون الخلاف الخليجي الدائر بخوفٍ وحزن، وقلقٍ على وحدة الصفّ العربي. هذا بالطبع غير صحيح: أكثر العرب (باستثناء من يرتبط مباشرةً بالرّاعي الخليجي ويعتمد عليه) يراقبون المسألة بلا اكتراث، وبعضهم يتابعها كمسلسلٍ رمضانيّ مسلٍّ، لا يريده أن ينتهي بسرعة؛ والبعض الآخر يشاهد بمزيجٍ من الفرح والشماتة (وهذا، بالطبع، حقّهم).
النّاس قد فهمت أنّ شعاراتٍ مثل «وحدة الصفّ» العربي، حين يكون الكلام على حلفاء أميركا وأعدائنا، ليست هدفاً سامياً، وأنّنا لم نعد في زمن مؤتمر الخرطوم وشعاراته ــــ وهو في الأساس كان زمناً سيئاً. أن تشجّع «الوحدة» بين أتباع أميركا (أو معهم) تحت شعار العروبة والأخوّة هو تماماً كأن تسعى، بحجّة الاشتراكيّة وحقوق العمّال، إلى تنظيم اللصوص في نقابة.
ولكنّ حجّتنا هنا هي أنّ بعض التحليلات التي تتكلّم على «حربٍ خليجية»، وصدامٍ حقيقي، وانقلابات وتغيير أنظمةٍ في الأفق، قد يكون فيها بعض المبالغة. الإعلام، حين يشنّ حملات ضغط كحملة السعودية والإمارات على الدّوحة حالياً، فإنّ عمله هو أن يضع المشاهد في حالة «أزمة» وجوّ دراميّ ينذر بخطرٍ قادم، ولكن هذا التهويل لا يكون له دوماً أساسٌ في الواقع. المسألة هي أنّ «أدوات» الخليجيين في وجه الدّوحة محدودة، والسيناريوهات ليست مفتوحة كما يتصوّر بعض العرب: الرياض وأبو ظبي لن تقوما، مثلاً، ببعث انقلابٍ في قطر أو تغيير نظام حكمٍ نفطيّ على هواهما، فهذه قراراتٌ تحدّدها أميركا وليست متروكةً لاستنساب حكومات الخليج (المرّة الأخيرة التي حاولت السعودية فيها رعاية انقلابٍ في قطر، عام 1996، كُشف الانقلاب وأُفشل بسهولة. الأمير السابق جاء بانقلاب على والده لأن واشنطن كانت موافقة عليه، وهو استمرّ ببساطة للسبب ذاته). بالمعنى نفسه، الإمارات والسعودية لن تقوما باجتياح قطر أو ضربها عسكرياً، ولا تملكان وسائل فاعلة للضغط على اقتصادها أو قطاعاتها الحيويّة؛ أي أنّه لا توجد حتى الآن ترجمةٌ عمليّة للصراخ الخليجي، وكلام الإعلام، مهما كان قاسياً وصاخباً، ولو شتم الأمير وعائلة الأمير ونسب الأمير، لا تأثير ماديّاً له والكلمات لا تجرح.
لماذا، إذاً، تطلق الإمارات والسعودية حملةً شعواء بهذا السّقف المرتفع، إن كانتا تعلمان مسبقاً أن نتيجتها لن تكون تغيير النظامٍ ولا هما قادرتان على تسبيب أذية فعلية له؟ أنا أحاجج بأنّ السبب الرئيسي خلف الحملة لا علاقة له بشخص الأمير، ولا بإيران وإسرائيل والسياسة الدولية، بل هو محاولةٌ خليجيّة لضبط الوضع الداخلي وقمع المخالفين ومنع الانشقاق في الفترة المقبلة، وهم لا يريدون منصّةً كقطر، تتيح مجالاً لإيواء المعارضين والخصوم وتلعب على تناقضاتهم الداخلية.
العامل الداخلي
ارتفاع منسوب القمع في الخليج في السنوات الماضية هو نزعةٌ ظاهرة للعيان، وبخاصة في السعوديّة حيث كان يوجد تاريخياً «هامشٌ» للتعبير الفردي، ولأناسٍ كثر نوعٌ من «حصانة»، بسبب اسمهم أو مهنتهم أو موقعهم في المجتمع، فجاء عهدٌ جديد يوضح بأنّه لن يتسامح مع الآراء المخالفة بعد الآن، ولو جاءت من كتّاب وموالين، ولو كانت مجرّد تغريدة على «تويتر» (وفي السعودية أصلاً، لم تتبقَّ من وسيلةٍ أخرى للتعبير السياسي العلني). أمّا الإمارات، فهي أصلاً بلدٌ «ممسوكٌ» أمنياً إلى أقصى الحدود، ولا تظهر سلطاته أيّ نوعٍ من التسامح مع التعبير والنشاط السياسي، ولو جاء من أبناء شيوخٍ وعائلاتٍ مهمّة. المسؤولون الإماراتيّون يحبّون لقبهم الجديد في الغرب: «اسبارطة الخليج»، وهو ينفع لتشجيعهم على شراء المزيد من السّلاح، ولكنه ليس مقاربةً تاريخيّة واقعية: المقاتلون الاسبارطيّون لم يكتسبوا سمعتهم التاريخية في الحرب بفضل أسلحة متفوّقة، أو حتّى لأنّهم كانوا مقاتلين مميّزين عن باقي مدن اليونان، بل لاستعدادهم للثبات في وجه الخسائر، وعدم تركهم لتشكيلاتهم حتّى حين يحمى الوطيس ويزداد الضحايا ويموت كلّ من حولك. هذا الاستعداد للبذل والتضحية وتحمّل الخسائر المفجعة هو الصفة التي تقرّر تاريخياً من ينتصر في الحروب، فهل الإماراتيّون لها؟
أبو ظبي هي اسبارطة فقط بمعنى أنّ المجتمع كلّه تحت الرقابة والتحكّم. أنت لا يمكنك أن تشتري صحيفةً في دبيّ، أو أن تسير في الشارع، أو تدخل شقّتك، من غير أن تلاحقك الكاميرات. وكلّ اتّصالاتك ورسائلك مسجّلة، ولو عبّرت عن رأيٍ «سيّئ»، ولو على وسائل التواصل الاجتماعي، فهم سيعرفون. لا يوجد مكانٌ ترتبط فيه الحداثة والتكنولوجيا العالية بالسلطوية والرقابة كما في الامارات (وأكثر أنظمة الرقابة الأمنية أعلاه، وإن نفذها غربيون مثل المدير السابق لشرطة نيويورك، فهي غير متاحةٍ في الغرب بسبب انتهاكها للخصوصيات والقوانين). تخيّلوا أن في الإمارات قانوناً يمنعك من استخدام مشفّرٍ للانترنت يخفي هويّتك حين تتصفّحها (على طريقة برنامج «تور»، الذي يستخدمه الملايين حول العالم بشكلٍ اعتيادي). لا يهمّ ماذا تفعل على الانترنت، ولكن ممنوعٌ عليك أن تضع نفسك خارج رقابتهم، وبمجرّد أن يكتشفوا وجود مشفّرٍ على حاسوبك، فأنت معرّضٌ لغرامة كبيرة وللسجن ــــ وهذه ليست قوانين على الورق، بل يتم تنفيذها بكفاءة وحرص.
بحسب بن زايد وبن سلمان، فإنّ العهد القادم في الخليج هو عهد مركزيّة وشخصنة للحكم، ولا مكانٌ فيه للانشقاق. قمع المعارضة والأقليات في السعوديّة والبحرين، والعنف الفائق واستخدام الجيش، هو رسالة إلى باقي المواطنين؛ والأزمة الاقتصادية والتقشّف غالباً ما تصاحبهما قبضةٌ أمنية وحساسية للنقد. من هنا، فإنّ المطلب الحقيقي للحملة الخليجية ضدّ قطر قد يستهدف الدّور السياسي والإعلامي للدّوحة، وبخاصة في الشؤون الخليجية الداخلية، وترحيل قطر للمعارض السعودي محمد العتيبي وتسليمه إلى السلطات السعودية (ضمن مسعى الدوحة لتخفيف الحملة واسترضاء الرياض، أو أقلّه فصلها عن موقف الإمارات) يشير إلى نمط التنازلات المطلوب.
«يمكرون ويمكر الله»
هناك عنصرٌ آخر لا يجب تجاهله في «حفلة الحبّ» القائمة، التي أنهت مصالحة إعلامية خليجية عمرها ثلاث سنوات: في الماضي حين كانت قناة «الجزيرة» في عزّها، في أوائل الألفية، لم تكن السعودية والإمارات تملكان إعلاماً سياسياً مؤثراً يوازي «الجزيرة» ويصل إلى كلّ بيوت العرب. لم تكن هناك «عربية» و«سكاي نيوز». وحين كانت الدّوحة تحرج السعوديين أو تهاجمهم، لم يكن في وسعهم فعل أيّ شيء أو حتّى الردّ بالمثل، إلّا عبر التلفزيون الرسمي السعودي (الذي لا يشاهده أحد) والصحف الورقية ومواقع انترنت. هذا كان من الأسباب التي دعت الرياض وأبو ظبي إلى الاستثمار في الإعلام السياسي، وقد أصبح لديهما اليوم سلاحٌ وهما تنويان استخدامه.
من الطريف أن يعقب قمّة ترامب في الرّياض، والوعود الكبيرة والعطايا الهائلة، خلافٌ داخليّ بين أتباع أميركا أنفسهم، ومن الطريف أكثر أن نشاهد إعلاميي الصحافة الخليجية وهم يحاضرون على بعضهم في المهنية وضرورة الالتزام بالموضوعية وتجنّب الأخبار المزيّفة (هذه «الثورة» في القيم الإعلامية تجري كلّها دفاعاً عن شرف الأمير، وليس ضدّ نهج التحريض والكذب الذي ساهم في تدمير دولٍ وتهجير شعوب). ولكنّ الأساس هو أن نعتاد على هذا النّمط التصادمي، حتّى تحصل مصالحة أو يتمّ احتواء قطر، فوجود آليتين إعلاميتين متقابلتين يعني أنّ أيّ إشكالٍ خليجيّ سينحو نحو التصعيد والعنف الكلامي، وإن لم تكن له نتائج على الأرض.
أمّا الطّرف الأضعف في كلّ هذه المعادلة، فهو المشرقي الذي يعمل في وظيفة سياسية لدى حكومات الخليج. النّظام القطري لن يسقط والسعودية لن تتراجع ولكن المؤسسات الإعلامية و«الثقافية» قد تُغلق بسهولة. لهذا تجد واحدهم اليوم أمام أحد خيارين: أمّا الصّمت والتّظاهر بأنّ شيئاً لا يحصل ــــ بينما الإعلام حوله يشتعل بالشقاق ــــ وأن يتكلّم على أيّ شيءٍ آخر، ولو مواضيع اجتماعية وسياحيّة (فالوضع بالنّسبة إلى الممولين جادّ اليوم، والولاءات تختبر، وكلّ كلمة لها ثمن)؛ أو أن «ينزل إلى السّاحة» ويدافع عن راعيه، ويشرح لنا ــــ نحن أهل المشرق ــــ كيف أنّ قطر أفضل من السعودية والإمارات ويجب أن نقف إلى جانبها، أو العكس. يجب أن نفهم هنا أنّ الكثير من هؤلاء يؤدّون مهام سياسيّة، وهم لا يملكون مهاراتٍ حقيقية ولا تدريباً أوصلهم إلى مكانهم، بل تمّ ببساطة «تعيينهم» مثقفين وكتّاباً وإعلاميين. بهذا المعنى، فإنّ «قيمتهم» تتأتّى حصراً من هذا المموّل واختياره، وليس من أنفسهم أو من «السّوق»، ولو تمّ طردهم فهم لن يجدوا وظيفة موازية، بل سيصبحون فوراً بلا مكان (وهذه الاعتمادية، لمن يتساءل، هي السبب الأساسي للسلوك العصبوي لدى هذه المجموعات، واستعدادها لإذلال النفس وتقديس الراعي وشتم خصومه، وهي عصبوية تفوق أي لحمةٍ سياسية أو أيديولوجية أو طائفية).
لا توجد «استدارات»
مثلما أنّ السّعودية والإمارات لديهما هامش خياراتٍ محدودٍ (خارج الإعلام) في وجه قطر، فإنّ قطر أيضاً لن «تستدير» خارج إطار الإعلام والدبلوماسيّة ولن تقف فعلياً ضدّ السياسة الأميركية أو تتحالف مع إيران أو تبدأ بدعم المقاومة. نحن نتكلّم هنا على دولٍ بلا سيادة، ومن يريد أن يعرف حدود السياسة القطرية عليه قراءة «ويكيليكس» وخطاب المسؤولين الأميركيين عن قطر، وعن قاعدة «العديد»، وتدخلهم في مسائل الاقتصاد والطّاقة والأسرة الحاكمة، وليس مشاهدة «الجزيرة» أو «العربية». المشكلة ليست في شخصية ملك أو أمير، بل في نظامٍ كامل بني في الخليج يقوم على استغلال الثروة العربية وتنصيب حكّام تابعين وتجهيل الشعوب وقمعها، ومن هذه الزاوية فإنّ المعسكرين يتماثلان.
النّاس جرّبت هؤلاء ولن يخدعها تغيّرٌ في اللغة وكلام الإعلام (وهو تغيّرٌ سببه نكايات محليّة، ولا علاقة له أصلاً بقضايانا أو بالقناعات). مثلما يقول الكاتب العراقي حسن الخلف، فإنّ أحد أسباب المعركة الخليجيّة القائمة هي هزيمة ميليشياتهم في بلادنا، وشعورهم بالضيق والعجز. حين كان التحريض سائراً على هذه القنوات، والنّار تأكل بلادنا من كلّ صوب، لم يكن من السّهل مقاومة الكذبة بحقيقةٍ أو الرد على الشتيمة بشتيمة أو مواجهة سيلٍ من البروباغاندا. في هذه الحالات، الشكل الوحيد الممكن للمقاومة هو في التذكّر وعدم النسيان، وأن تعدّ (لوقتٍ لاحق) لوائح بكلّ من حرّض وتآمر وساهم في الخراب، وأراد لنا الموت. مهما تغيّرت اللغة في المستقبل، فإنّ ما فعلوه ــــ كلّهم ــــ لا يحتمل المسامحة ولا «إعادة التأهيل». فلتبقَ لغة الإعلاميين للإعلاميين ولغة السياسيين للسياسيّين، أمّا لمن خسر الكثير بسبب أفعال الخليج ومن والاه، فإنّ أقلّ أفعال المقاومة هو أن نصون الذاكرة، وأن نتذكّر القوائم جيّداً ودائماً، وأن نترك لغيرنا المسامحة والغفران.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/05/30