الإعلام المتجدد .. وقضية التنمية
أ.د.سعد علي الحاج بكري
عندما نقول "إعلام" فنحن نستخدم الكلمة المصدر لكلمة "أعلم"، وهي فعل يتضمن إخبارا أو تقديما للمعلومات من قبل مصدر للمعلومات، يقوم بتوجيهها إلى مقصد يهتم بهذه المعلومات. والمعلومات تبعا "للمنظمة الدولية للمواصفات والمقاييس ISO"، قد تكون حقائق، أو آراء، أو ربما تعليمات. وبالطبع يفترض في الحقائق أن تكون صحيحة، مثل الأخبار التي يجب توثيقها قبل تقديمها؛ ويفترض بالآراء أن تستند إلى أهداف وإلى منطق، وأن تنسب إلى أصحابها؛ ويفترض بالتعليمات أن تكون صادرة عن جهة توجيه ومرسلة إلى جهة تنفيذ تتبعها، وأن تكون بالطبع قابلة للتنفيذ من قبل هذه الجهة.
وإذا نظرنا إلى التعبير عن الإعلام باللغة الإنجليزية، نجد أن الكلمة المستخدمة هي "ميديا" Media، وهي كلمة مأخوذة من اللغة اللاتينية، لغة روما القديمة، وتعني الوسيلة أو الوسيط. والمقصود هنا الوسيلة أو الواسطة المستخدمة في نقل المعلومات من المصدر إلى المقصد. والوسائل أو الوسائط التقنية المعتادة في هذا المجال بدأت بالطباعة التي مكنت نقل المعلومات عبر الصحافة المطبوعة منذ القرن الـ 15 للميلاد؛ ثم الإذاعة والتلفزيون التي مكنت من نقل المعلومات بالصوت والصورة، في النصف الأول من القرن العشرين، وتطورت في النصف الثاني لتستخدم الأقمار الصناعية حول العالم. ثم هناك أيضا وسائل ووسائط متطورة ومتجددة أخرى للإعلام تستخدم الحاسوب والإنترنت، وما يستندان إليه من تقنية رقمية.
"الإعلام"، على أساس ما سبق، هو معلومات وهو أيضا تقنية، حيث المعلومات هي سلعة يطلب نقلها وتوزيعها على المستفيدين؛ والتقنية هي وسيلة لتمكين هذا الفعل. ولهذا الأمر أهمية كبرى في حياة الإنسان، في شتى مجالات الحياة. فالمعلومات تحمل معرفة لمن يستوعبها، فإذا كانت هذه المعلومات سليمة ومتكاملة، في موضوع من الموضوعات، فهي تقدم معرفة سليمة ومتكاملة لمن يفكر فيها ويستوعبها. ولا شك أن المعرفة السليمة والمتكاملة هي القاعدة الأساسية اللازمة لتكوين آراء سليمة، واتخاذ قرارات رشيدة؛ وهي أيضا أساس تحتاج إليه الحكمة في توجيه أمور الحياة، والإبداع والابتكار اجتماعيا وتقنيا، بما يعود على المجتمع بالخير والمنافع الكثيرة.
شهدت تقنيات المعلومات التي تقدم الوسيلة اللازمة للإعلام تطورا مطردا في العقود الأخيرة. فالتزاوج بين شبكات الاتصالات والنظم الحاسوبية أعطانا الإنترنت، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وقدمت هذه الوسيلة منبرا عالميا مشتركا للتواصل المعلوماتي وتقديم الخدمات من بعد. ومع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة للميلاد، بدأت وسائط ما عرف بالشبكات الاجتماعية Social Media بالظهور، وهي وسائل تستخدم الإنترنت في تقديم منبر معلوماتي للجميع، وتتميز بالسماح بذلك عبر أساليب مبتكرة ومختلفة. أي أن المشاركة في هذه الشبكات، وهي مشاركة مجانية، تجعل من كل مشارك مصدرا للمعلومات، ومقصدا مستهدفا لها أيضا.
استجابت المؤسسات الإعلامية التقليدية للتطور التقني. فالصحافة لم تعد تصدر ورقيا فقط، بل إلكترونيا أيضا عبر مواقع خاصة بها على الإنترنت. كما أن الإعلام الإذاعي والتلفزيوني وضع برامجه بالصوت والصورة على مواقعه على الإنترنت، حيث يستطيع المقصد المتلقي أن يحصل عليها في الوقت الذي يناسبه. ليس هذا فقط، بل إن المؤسسات الإعلامية باتت تسمح للقراء والمستمعين والمشاهدين بالتعليق وطرح الآراء على كل ما يرد فيها، ضمن أساليب محددة. وتعطي هذه الآراء والتعليقات أفكارا للمؤسسات الإعلامية تساعدها على تطوير إمكاناتها وجذب مزيد من المهتمين إليها.
وهكذا نجد أنفسنا، مع الإعلام الجديد، أمام إعلامين اثنين: إعلام المؤسسات الإعلامية التقليدية من جهة، وإعلام الشبكات الاجتماعية من جهة أخرى. الأول يعمل بضوابط تختلف بين دولة وأخرى ومؤسسة وأخرى؛ والثاني جعل من كل فرد مؤسسة إعلامية بذاتها تعمل على تقديم المعلومات، باسمه الشخصي أو حتى باسم مستعار، دون أن تكون لها ضوابط محددة، إلا الضوابط الشخصية وضوابط البيئة لهذا الفرد أو ذاك. ولا شك أن التطور التقني المتسارع للتقنية ذاتها، ولأساليب استخدامها، سيقدم مزيدا من الإمكانات التي يمكن أن تسهم في تجدد الإعلام.
يشهد الإعلام تطورا مطردا يحمل آثارا مهمة في قضية التنمية وآفاقها المستقبلية، ليس فقط على المستوى الوطني، بل على المستوى العالمي أيضا. فالإعلام عموما يستهدف الإنسان - مصدر التنمية ومقصدها؛ كما أن الإنسان، في إعلام الشبكات الاجتماعية الجديد، والمنتشر على نطاق واسع، هو أيضا مصدر هذا الإعلام، ناهيك عن كونه أيضا مقصده. في إطار هذه العلاقة المزدوجة، وذات الطبيعة الدورانية، يحتاج الإعلام المتجدد، ودوره في التنمية، إلى فهم أعمق، يقوده حوار فكري موضوعي مثمر بين المهتمين.
يطلب من مثل هذا الحوار تقديم أفكار متجددة، تتطلع إلى تعزيز دور الإعلام الإيجابي في تنمية الإنسان والارتقاء بوعيه ومسؤولياته؛ وتسعى أيضا إلى تمكينه من التعامل مع الإعلام، سواء كان مصدرا أو مقصدا له بشكل أفضل. والأمل أن يقود ذلك إلى تفعيل أكبر لدور الإعلام في التنمية اجتماعيا واقتصاديا وإنسانيا، ليؤدي بالتالي إلى دعم مسيرة التقدم وتعزيز استدامتها.
ولعل موضوع مسؤولية الإنسان يأتي بين أهم موضوعات الحوار المنشود بشأن أثر الإعلام، بكل أشكاله، في الإنسان ودوره في التنمية والتقدم. وللمسؤولية هنا مشهد واسع المدى لا يقتصر على الإنسان ذاته بل يشمل المجتمع من حوله، وربما العالم بأسره. ثم إن لهذه المسؤولية منطلقات أخلاقية؛ وتوجهات يجب أن تستهدف التنمية، بشتى أشكالها وآفاقها الموضوعية الواسعة؛ إضافة إلى متطلباتها في الكفاءة والفاعلية ورشاقة الأداء.
المسؤولية التي تطلب من الإعلام، بكل أشكاله وفنونه، أن يهتم بها ويسعى إلى تفعيلها في كل إنسان، هي مسؤولية واسعة تمتد إلى المجتمع وتنميته ومسيرته نحو التقدم، ولا تقتصر فقط على المسؤولية الذاتية والفوائد الشخصية. فالمجتمع حاضنة للجميع، تقع مسؤوليتها على الجميع، وأي تقصير في متطلبات هذه الحاضنة يعود بالضرر على الجميع. المسؤولية المنشودة المطلوبة من كل إنسان يجب أن تنطلق من تفعيل عقلية المجتمع في إطار "نحن"، قبل عقلية الذات في فردية "أنا".
صحيفة الاقتصادية
أضيف بتاريخ :2017/06/01