استهداف قطر حرف لبوصلة الأمة
د. سعيد الشهابي
مفاجآت عديدة صدمت الرأي العام الأسبوع الماضي، أغلبها محتمل ولكن غير متوقع، أولاها الاعتداءات الإرهابية التي حدثت في لندن بمنطقة «لندن بريدج» ونجم عنها مصرع ثمانية أشخاص أبرياء بدون ذنب اقترفوه. ثانيها تمكن مجموعة من الإرهابيين من اقتحام مبنى البرلمان الإيراني وقتل 17 من مرتاديه، برغم اليقظة المتوقعة من أجهزة الأمن والاستخبارات والحرس الثوري.
الثالثة القرار السعودي المفاجئ باستهداف دولة قطر وقطع العلاقات معها وتحميلها، بصلافة نادرة، مسؤولية دعم الإرهاب.
هذه التطورات ممكنة الحدوث ولكنها غير متوقعة. فالإيرانيون الذين حصنوا بلادهم ضد الاختراق الخارجي وأجهضوا أغلب محاولات استهدافهم من طيف واسع من الأعداء، فوجئوا بعدم توفرهم على مناعة كافية لمنع ما حدث يوم الأربعاء الماضي عندما سعت ثلاث مجموعات إرهابية لإحداث ثغرات في التحصينات الأمنية لعدد من المواقع ذات الأهمية السياسية والمعنوية. ويسجل للأمن الإيراني قدرته على اكتشاف إحداها، وتحييده الثانية التي استهدفت مسجد الإمام الخميني، ولكنه أخفق في منع الثالثة من اختراق التحصينات الأمنية لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، فتمكنت من التغلغل في أزقته ولكنها أخفقت في الوصول إلى قاعته الرئيسية التي كانت مكتظة بأعضائه المجتمعين.
ويفترض أن الإيرانيين قد أدركوا حدود المناعة التي توفرها الإجراءات الأمنية في زمن أصبحت فيه أرواح البشر رخيصة، خصوصا بعد أن فقدوا عددا من علمائهم النوويين في عمليات اغتيال اتهم جهاز «الموساد» الإسرائيلي بتنفيذها. وينطبق هذا الكلام على البريطانيين الذين طالما اعتقدوا أن لديهم من أجهزة الأمن والاستخبارات ما يحول دون الاختراقات الخطيرة التي حققها الإرهابيون في غضون عشرة أسابيع، ابتداء بالاعتداء الأول بالقرب من مبنى البرلمان ثم التفجير الذي حدث بصالة مانشستر وصولا إلى التفجير الأخير الأسبوع الماضي. محصلة هذه المقدمة أن الإرهاب خطر محدق بالعالم، وأن التحصينات البشرية، مهما كانت منيعة، لا تستطيع منع حدوث الاعتداءات خصوصا إذا كان منفذوها مستعدين للانتحار. الحقيقة المرة غياب الإرادة الدولية للتصدي الجماعي أو التعاطي الجاد مع الظاهرة خصوصا مصادرها الفكرية والدينية بالإضافة لتمويلها وتهيئة الظروف لها.
هاتان المفاجأتان كشفتا عجزا كبيرا عن منع أذى الإرهاب من الوصول إلى المواطنين برغم الإنفاق الهائل على أجهزة الأمن والاستخبارات.
أما المفاجأة الثالثة فتتمثل بإعلان الدول الخليجية الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين الأسبوع الماضي قطع العلاقات مع دولة قطر. كان الخبر مذهلا لأنه حدث بدون مقدمات أو خطوات تدريجية نحو ذلك القرار. والمفاجأة كانت لأسباب عديدة: الأول أنه جاء بعد فترة وجيزة من الزيارة المشؤومة التي قام بها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للرياض والتقى فيها زعماء أربعين دولة عربية وإسلامية. وكان يفترض أن تؤدي تلك الزيارة إلى تلاحم خليجي أكبر وتوافق مع الولايات المتحدة حول القضايا الأمنية والسياسية. بينما الذي حدث أن أولى نتائجها كانت إراقة الدماء في البحرين، ثم إقدام السعودية على خطوة ستؤدي حتما لتصدع مجلس التعاون الخليجي، ثم الاعتداء الإرهابي على إيران. فما الإيجابية في هذه الزيارة إذن؟ الثاني: إن القرار السعودي كان صارما ومتعجرفا، لا يعبر عن لباقة سياسية أو علاقة حميمية مع الجيران و«الأخوة الصغار»، بل يؤكد نزعة نحو الاستبداد والتجبر والاعتقاد بأن القوة وحدها كفيلة بتقوية البلدان وتوفير النفوذ. الثالث: إن السبب الأساس الذي طرح لهذا القرار لا يعبر عن كياسة أو عقل راجح لأنه محاولة لتوجيه اللوم للآخرين حول سياسة محورية تبنتها حكومة الرياض منذ قرابة ثلاثة عقود وليست من صنع أي دولة خليجية أخرى. فالإرهاب أساسا لم ينطلق من قطر أو مدارسها أو توجهات حكامها. يقول المحلل السياسي المعروف، روبرت فيسك في مقال نشر الخميس الماضي في صحيفة «اندبندنت»: لم يشارك القطريون في قيادة طائرات 11 سبتمبر/أيلول لنيويورك أو واشنطن. فجميع القتلة التسعة عشر، ما عدا أربعة منهم، كانوا سعوديين. ولم يكن أسامة بن لادن قطريا». الرابع: إن حشر أسماء دول ذيلية في قرار قطع العلاقات لا يعبر عن قوة أو دعم حقيقي للقرار السياسي الأساس. فيسك يفسر قرار المالديف تنفيذ القرار السعودي متهكما: من المؤكد أنه ليس له علاقة بوعد سعودي جديد بمنح قرض قيمته 300 مليون دولار على مدى خمس سنوات، أو قرار شركة سعودية باستثمار 100 مليون دولار في منتجع سياحي بالمالديف أو وعد من علماء مسلمين سعوديين ببناء مساجد في تلك الجزر يتقدمها «جامع الملك سلمان» الذي يتسع لـ 6000 مصل. ماذا يعني استهداف قطر بهذا الأسلوب؟ ولماذا؟ وما تبعاته الإقليمية؟ في العام 1992 احتلت القوات السعودية مركز الخفوس القطري في عملية أثارت استياء عميقا لدى حكام الدوحة.
يومها كانت الإمبراطورية الإعلامية السعودية كاسحة، فلم يهتم أحد بالموقف القطري الرافض لذلك. ومنذ ذلك الوقت لم تتحسن العلاقات إلا بشكل طفيف ومؤقت، لأن ذلك الاعتداء كان مؤشرا لنوايا توسعية لدى السعودية متواصلة. وبرغم ما يبدو من تناغم بين الموقفين الإماراتي والسعودي فإن الخلاف الحدودي بينهما قائم خصوصا حول «حقل الشيبة». هذا الحقل افتتح في 1998 ويضخ مليون برميل يوميا، ولا يبعد سوى 10 كيلومترات من حدود أبوظبي التي تعتبره ضمن حدودها الإقليمية. كما أن السعودية مستاءة من توسع دور الإمارات خصوصا في اليمن حيث تسيطر على ميناء عدن بالكامل. وفي الفترة الأخيرة قامت بتشكيل جيش قوامه 30 ألفا من اليمنيين يديره الإماراتيون.
كما أن علاقة الإمارات مع عبدربه هادي منصور ليست على ما يرام، فلا تسمح له بالتوجه إلى عدن إلا نادرا. وتبدو المواجهة بين الرياض وأبوظبي مؤجلة إلى ما بعد الفراغ من الخلاف مع قطر. أما حكومة البحرين فلا تملك من الأمر شيئا سوى تنفيذ الأوامر السعودية، منذ أن استدعت القوات السعودية لحمايتها في 2011، وفقدت بذلك سيادتها كاملة. القرار السعودي أحدث شرخا عميقا داخل مجلس التعاون الخليجي الذي فقد تماسكه الحقيقي بعد عشرة أعوام من إنشائه. وبدت هشاشته واضحة عندما عجز عن احتواء التوتر بين الرياض والدوحة بسبب حادثة الخفوس المذكورة.
اليوم أصبح مجلس التعاون يتألف من تكتلين متميزين: السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وسلطنة عمان وقطر والكويت من جهة أخرى. فما هي مشاكل السعودية الحقيقية مع قطر؟ في البداية كانت هناك القضية الحدودية التي تم احتواؤها لاحقا، ثم جاءت قناة «الجزيرة» لتشكل سببا للتوتر بينهما بعد أن تبنت تلك القناة في بداياتها سياسة الانفتاح ليس على الحكومات العربية فحسب، بل على المعارضات أيضا. وأدت الضغوط السعودية إلى تغيرات في سياساتها، الأمر الذي أضعف وهجها. والأخطر كان وقوف قطر بجانب ثورات الربيع العربي (ما عدا في البحرين)، الأمر الذي أغضب السعودية كثيرا. ويمكن حصر أربع قضايا تمثل جوهر الغضب السعودي إزاء قطر: أولاها سعيها لامتلاك أدوات إعلامية فاعلة كقناة «الجزيرة»، تتواصل مع المعارضين العرب وتتعامل بقدر من الحرفية مع الواقع السياسي في العالم العربي. ثانيها: تبنيها سياسة خارجية تختلف في بعض جزئياتها عن السعودية، خصوصا مع إيران. فعندما أعلنت السعودية العام الماضي قطع علاقاتها مع إيران، تبعتها البحرين وعدد من الدول الذيلية، ولكن قطر لم تفعل.
وحين بدأت الحرب على اليمن، تبعتها الإمارات والبحرين وبعض الدول الذيلية، ولكن دور قطر كان محدودا. ثالثها: إن ثروتها الاقتصادية الكبيرة من النفط والغاز جعلها تشعر بقوة اقتصادية دفعتها للاستثمار في الغرب، خصوصا بريطانيا، ورفضت الرضوخ للضغوط السعودية بشأن القضايا السياسية المختلف بشأنها. رابعا: إن علاقاتها مع جماعة «الإخوان المسلمين» وحماس كانت مصدر انزعاج لكل من السعودية والإمارات، خصوصا بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، قبل أربعة أعوام. هذه العلاقة ساهمت في بلورة علاقات قطر مع تركيا، فتشكل محور مواز للمحور الذي تقوده السعودية. ومن المؤكد استمرار التوتر حول هذه العلاقة التي أصبح من الصعب على قطر قطعها. خامسا: إن وقوف قطر مع ثورات الربيع العربي كان مخالفا للسياسة السعودية التي استهدفت تلك الثورات حتى أجهضتها.
منذ تأسيس مجلس التعاون في 1981 كان واضحا أن السعودية تريده مظلة سياسية لها، وذراعا تستخدمه للضغط على الآخرين في الوقت الذي كانت تؤسس لنفوذها السياسي الإقليمي والدولي. ولكن من الناحية العملية لم يكن المجلس يتناسب مع طموحات الرياض، ولذلك تحرك قادتها في السنوات الأخيرة على عدد من المحاور: مد العلاقات مع المجموعات الإرهابية منذ أيام «الجهاد» في أفغانستان، وساهموا في تأسيس تنظيم «القاعدة»، ثم تواصلوا مع المجموعات التي نشأت عن ذلك التنظيم. قطر متهمة بدعمها بعض هذه المجموعات التي كانت السعودية ضالعة في تأسيسها. وفي الفترة الأخيرة وقعت حادثة المخطوفين القطريين لدى مجموعات مسلحة عراقية. وكشف رئيس الوزراء العراقي عن احتجاز حقائب مليئة بأموال كانت ستسلم لتك المجموعات في مقابل الإفراج عن 26 قطريا مخطوفا.
ويبدو أن هذه الواقعة أزعجت السعودية كثيرا لأنها ربما لم تكن على علم بها. أيا كان الأمر ترفض الرياض أن يكون لدى أي من دول مجلس التعاون سياسة خارجية مختلفة عن سياساتها. وبعد زيارة ترامب شعرت السعودية أنها حصلت على صك مفتوح من الرئيس الأمريكي لانتهاج سياسات أكثر صرامة مع معارضيها المحليين والإقليميين، وقد بدأت بتفعيل ذلك باستهداف المنطقة الشرقية والبحرين، قبل أن تجمع قواها لاستهداف قطر. وبهذا دخلت منطقة الخليج مرحلة أكثر توترا واضطرابا، في الوقت الذي لا تزال أيدي الإرهاب تهددها بوتيرة أشد في عالم يفتقد القيادة ولا يخضع لمنطق أو قانون. إنها مغامرة خطيرة قد ترتد سلبا على القائمين بها، ونار ستحرق أيدي من أشعلها.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/06/12