الحلف التركي ــ الأميركي أو ثمن العلاقة مع الغرب
عامر محسن
منذ أسبوع، كتب المؤرّخ التركي شكرو هاني أوغلو (هو حالياً أستاذ تاريخ الشرق الأدنى في جامعة برنستون) مقالاً متشائماً عن مصير الحلف الأميركي ــ التركي، الذي يعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، اختار أن ينشره في دورية «ناشيونال انترست» الأميركية المحافظة.
يحمل المقال عنواناً معبّراً "هل إنّ نهاية الحلف التركي ــ الأميركي محتّمة؟»، ويبني هاني أوغلو فيه مقارنةً بين الحلف العثماني ــ البريطاني في أواسط القرن التاسع عشر، ومساره ونهايته، والحلف الأميركي ــ التركي الحالي، الذي يمرّ ــ بحسب هاني أوغلو ــ في تحدّياتٍ تشبه تلك التي أبطلت التحالف بين السلطنة وبريطانيا، وحوّلتهما ــ خلال سنوات قليلة ــ إلى أعداءٍ وجوديين مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.
يقول هاني أوغلو إنّ الحلفين، على رغم وجودٍ قرنٍ كاملٍ من الزمن يفصل بينهما، أنشئا في ظروفٍ متشابهة ولخدمة الهدف ذاته تقريباً (الوقوف ضد التوسّع الروسي في حالة السلطنة العثمانية، ومحاصرة التهديد السوفياتي خلال الحرب الباردة)، بل إنّ الحلفين ــ يزيد المؤرّخ التركي ــ يشكّلان امتداداً أحدهما للآخر. حين وجدت السلطنة ــ في القرن التاسع عشر ــ أنّ وحدتها الإقليمية أضحت مهدّدة بفعل الصعود الروسي، لجأت إلى القوة الإمبراطورية «البعيدة»، بريطانيا، التي جعلت من حماية الأراضي العثمانية من الغزو الروسي ركناً أساسياً في سياستها الخارجية على مدى عقود. في المقابل، حين واجهت الجمهورية التركية، إثر الحرب العالمية الثانية، عداءً سوفياتياً وتهديداً مباشراً من ستالين (وذلك كان، أساساً، بسبب اعتماد الحكومة التركية سياسات مؤيدة للنازيين خلال الحرب)، لجأت أنقرة إلى الولايات المتحدة والرئيس ثيودور روزفلت، واعتمدت نظاماً انتخابياً برلمانياً بدلاً من حكم الحزب الواحد، واعترفت بالكيان الصهيوني عام 1949، وأصبحت عضواً في حلف الـ«ناتو» عام 1952 لتكتسب لقب «الحصن الشرقي للديمقراطية الغربية» بحسب المؤرّخ التركي.
ضمور التحالفات
المشكلة هي أنّ التحالف الذي يقوم على وجود عدوٍّ مشترك تزول أسبابه بزوال ذاك العدوّ، وتبدأ التناقضات الخفيّة بالبروز. وصل التقارب العثماني ــ البريطاني إلى قمّته خلال حرب القرم عام 1853، حين نظّمت بريطانيا حلفاً أوروبياً للدفاع عن الدولة العثمانية ومنع روسيا من قضم أراضيها. ولكن مع خفوت التوتر والمنافسة بين روسيا وبريطانياً («اللعبة الكبرى»، كما سُمّيت حينها)، وصولاً إلى المعاهدة التاريخية التي أنهت العداء بين البلدين عام 1907، أصبح الحلف البريطاني ــ العثماني شكلياً، وانتفت وظيفته الحقيقية، فوجد البلدان نفسيهما على جبهاتٍ متقابلة بعد سنوات قليلة. الحلف الأميركي ــ التركي أيضاً، يقول هاني أوغلو، صنع العداء المشترك للاتحاد السوفياتي دعائمه؛ فالجمهورية التركية وجدت نفسها في جوار خصمٍ هائل يعاديها، بينما فهمت أميركا أن تركيا تصلح كمنصّة لإطلاق الصواريخ والانزالات ضدّ السوفيات لو اندلعت الحرب، وسدّاً يمنع التوسّع الشيوعي في البحر الأسود، ونقطة ارتكازٍ موالية للغرب في منطقة مضطربة. ولكنّ نهاية الحرب الباردة ألغت كلّ هذه الاعتبارات، فلا تركيا تنظر إلى روسيا كتهديدٍ وجوديّ بعد اليوم، ولا واشنطن مستعدّة للتغاضي عن كلّ شيء مقابل ضمان حليفٍ يجاور الخصم السوفياتي.
يحاجج هاني أوغلو بأنّ التوتّرات بين أنقرة وواشنطن في السنوات الأخيرة، وعوارض "ضمور الحلف" التي تظهر باطراد، تتطابق مع ما جرى بين الباب العالي ولندن في أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى. لجأ العثمانيون إلى البريطانيين لسببين مترابطين: للحفاظ على وحدتهم الترابية (وهذا كان الهمّ الأساس لحكّام اسطنبول خلال القرن الأخير من حياة السلطنة)، وعلى اعتبار أنّ بريطانيا قوّةٌ «بعيدة»، لن تنافس السلطنة على الحدود وتطمع بالتوسّع على حسابها. حين خفت التهديد الروسي، تغيّرت الصورة تماماً: بدأت بريطانيا بحثّ إسطنبول على تقديم المزيد من التنازلات للأقليات الدينية والقومية، التي كانت قد بدأت بتهديد النسيج الإمبراطوري، ودعمت حكماً ذاتياً لمقدونيا ونظاماً مشابهاً للمحافظات الأرمنية في الأناضول، وهي أمورٌ كان الباب العالي قد بدأ ينظر إليها كخطٍّ أحمر. من هنا، اقتنع قسمٌ كبير من قادة الدولة في إسطنبول بأنّ بريطانيا ــ تحت شعارات اللبرلة وحقوق الأقليات ــ تخفي مخطّطاً سرياً لتقسيم السلطنة العثمانية وتحطيمها.
بالمثل، لم تعكّر القضية الكردية أو المسألة الديمقراطية العلاقات بين واشنطن وأنقرة، وظلّ الإعلام الأميركي ينظر إلى تركيا ــ طوال الحرب الباردة ــ كنظامٍ حليفٍ و«ديمقراطي» (رغم دور الجيش والانقلابات المتتالية)، وقد فهم القادة الأتراك أنّ حلفهم مع واشنطن يعطيهم "الحرية الكاملة" على المستوى الداخلي، وبخاصة في ما يتعلّق بوحدة البلد. التوتّر بين تركيا والغرب حول قضايا الأكراد والديمقراطية (إضافة إلى مسألة المجزرة الأرمنية) انطلق مع نهاية الحرب الباردة، وقد عبرت واشنطن ودولٌ أوروبية، في هذا الإطار، العديد مما يعتبره القوميون الأتراك «خطوطاً حمراً» في السياسة الداخلية. ومع التحالف الأخير بين أميركا والميليشيات الكردية في سوريا، يتزايد الاقتناع لدى قطاعٍ عريض من المسؤولين الأتراك وكوادر «حزب العدالة والتنمية» بأنّ أميركا تضمر مؤامرةً خطيرة ضدّ تركيا، وتنوي تقسيمها أو تحويلها إلى فيديرالية إثنيات وأقليات، بلا مركزٍ ولا سيادة.
الصداقة مع القوي
لدى سمير أمين رأيٌ في هذه المسألة، إذ يرى أنّ اشتعال القضية الاثنية والتحالف الغربي ليسا موضوعين منفصلين أو يمكن تفسيرهما حصراً، كما يفعل هاني أوغلو، عبر تغيّرات المصالح والسياسة الدولية. إدماج تركيا في المنظومة الغربية وتحويلها إلى "هامش" في النظام العالمي كان سلّماً يوصل ــ لا محالة ــ إلى تفكيك الدولة الكمالية ونخبتها وأيديولوجيتها واستبدالها بنظامٍ "طائفي». الانتخابات ونظام التعددية الحزبية الذي شجّعت واشنطن تركيا على اعتماده بعد الحرب العالمية الثانية، لم يخلق ديمقراطية ليبرالية، ولكنّه أدّى إلى صعود نخب جديدة من خارج الدوائر الكمالية التقليدية (التي تنحدر أغلب شخصياتها من أصول "روميلية»: اسطنبول وازمير وتسالونيكي)، ودخول قيادات إسلامية ومحافظة من الأناضول (وحركات قوميّة كردية بعد التسعينيات) إلى النظام السياسي.
لم تكن أميركا أصلاً متحمّسة للعلمانية الكمالية المتطرّفة (اللائكية) خلال الحرب الباردة، يقول هاني أوغلو؛ فواشنطن كانت تفضّل أن تكون تركيا قطباً يجذب المسلمين في العالم، وليس تجربةً في محاكاة الغرب. ولم تكن أميركا، في تلك المرحلة، تشعر بقلقٍ من التيار الإسلامي، إذ إنّ كامل المجتمع السياسي التركي عام 1952 كان مؤيّداً لدخول الـ«ناتو» والتحالف مع الغرب، بما في ذلك النخب الإسلامية. وقد كانت الحركات الإسلامية التي تنتجها تركيا في تلك المرحلة من صنفٍ يؤيّد الغرب وأميركا بوضوح (ومثالها حركة فتح الله غولن: إسلامي معادٍ للكمالية ويدعو الأتراك إلى العودة إلى تقاليدهم، ويؤيد في الوقت ذاته أميركا وإسرائيل بشكلٍ مطلق).
للحق، فإنّ ما يقوله سمير أمين لديه سابقة في التحالف العثماني البريطاني. كما يشرح المؤرّخ التركي هاني أوغلو، تبدلّت صورة "العثماني" لدى الأتراك مرّاتٍ عدّة. ليس صحيحاً أنّ أوروبا كانت تنظر إلى السلطنة حصراً كـ«رجلٍ مريض» ونظامٍ متخلّف، بل إنّ "التنظيمات" العثمانية، التي ترافقت مع توثيق التحالف بين السلطنة والإمبراطورية، صاغت نظرةً مختلفة تجاه الحكم التركي في لندن في أواسط القرن التاسع عشر، حيث أصبح العثمانيون "ليبراليين" ونظاماً ملكياً "يقوم بإصلاحاتٍ" وحليفاً للقوى الليبرالية الأوروبية في وجه الحكم المطلق للقيصر الروسي. بل إنّ السلطان عبد الحميد أعطى رعاياه من كلّ الأديان حقوقاً قانونية متساوية، بتشجيعٍ من لندن، وأقرّ دستوراً ليبرالياً لقي الثناء في أوروبا. غير أنّ القادة العثمانيين اكتشفوا سريعاً أنّ هذه الإصلاحات تحديداً قد سرّعت من تطوّر الحركات الاستقلالية على هوامش السلطنة وبين الأقليات، وقد اعتبرت القوميات والأقليات أن الدستور الجديد والحقوق القانونية ليست كافية، وبدأت بالمطالبة بالاستقلال، وقد شجّعتها الإصلاحات والموقف الأوروبي المساند. هنا، وتحت تأثير التهديد واليأس والتشكيك في الحليف البريطاني، علّق عبد الحميد الثاني دستور 1877 وحاول تركيز الحكم واعتمد سياسة "إسلامية" تجاه رعاياه والعالم.
المواجهة
جاءت الضربة القاضية للحلف الانغلو ــ عثماني حين لم تعد بريطانيا قوّة بعيدة، بل أصبحت "جارة" للسلطنة، تحتلّ مصر وتعقد معاهدات الحماية مع شيوخ الخليج، وتقضم ــ تماماً كالروس ــ المجال الحيوي العثماني. مع ازدياد التوتّرات بين البلدين، قرّرت بريطانيا أن تجعل القاهرة، لا إسطنبول، مركز سياستها في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي زاد من تهميش الحلف الثنائي وموقع إسطنبول في السياسة الخارجية البريطانية (على الهامش: جزءٌ أساسي من الريادة المصرية على مستوى الإقليم في مجالات الإدارة والزراعة والتعليم وغيرها من قطاعات الحداثة كان مردّه هذا الاستثمار البريطاني الكبير في مصر، قبل احتلالها عام 1882 وبعده).
بالمثل، وصل الحلف التركي ــ الأميركي الى نقطة التوتّر بعد حرب العراق عام 2003، حين أصبحت أميركا "جارةً" لتركيا، واقتنع العديد من المخططين الأتراك بأنّ لواشنطن ــ مثل لندن في الماضي ــ "خريطة" جديدة للشرق الأوسط، لن تترك تركيا قوية وموحّدة. بطبيعة الحال، تحوّلت هذه الشكوك إلى ذعرٍ مع الحرب السورية، والتحالف الأميركي العسكري مع قوىً كردية تعتبرها أنقرة ــ بمقاييس أمنها القومي ــ بخطورة "داعش" تماماً. بدلاً من أن تكون تركيا هي الحليف الوحيد لأميركا في المنطقة، فإنّ واشنطن قد تستبدلها بقوىً أكثر "طواعية»، كالسعودية والإمارات، أو بدويلاتٍ تعيش بفضل الحماية الأميركية، في كردستان العراق أو في سوريا.
الأساس هنا هو أنّ التحالفات مع القوى العظمى ليست متشابهة ومن نمطٍ واحد، على الرغم من الاختلال البنيوي في ميزان القوى بين الحليفين في كلّ الحالات. الحلف الأميركي ــ السعودي لا يشبه الحلف الأميركي ــ الكوري أو الحلف الأميركي ــ التركي، ولكلٍّ وظائف مختلفة. إنّ تعابير "التبعية" و«الخضوع" قد تخفي واقعاً أكثر تعقيداً، ولا يمكن تبسيط المسألة بأنّه يكفي أن يصدر مسؤولٌ أميركيّ أمراً حتّى يطيع الحليف. في أواخر القرن التاسع عشر، كان السفير البريطاني في إسطنبول ستافورد كاننغ يكنّى بـ«السلطان الصغير» في المدينة، وكان ــ بحسب هاني أوغلو ــ قادراً على تعيين الوزراء وطردهم. غير أنّ الفريق المؤيّد لبريطانيا هُزم في نهاية الأمر حين اقتنع السلطان وعددٌ كبير من رجال الدولة بأنّ هذا الحلف قد تحوّل إلى اختراقٍ ولم يعد يخدم أهدافه، وسيؤدّي إلى نهاية "الدولة العليّة" (بالمثل، اقتنع عددٌ من أركان الحكم في تركيا بأنّ أميركا تنمّي فصيلاً "ناتوياً" داخل الدولة والجيش، وهي شكوكٌ تحوّلت إلى اتهامات بعد الانقلاب الأخير الفاشل، واعتماده الأساسي على وحدات من الجيش التركي مدرّبة للعمل مع قوات الـ«ناتو»).
الأتراك، بحسب المؤرّخ التركي، لن يستديروا بالكامل ضدّ واشنطن، أو يحاولوا استبدالها بحلفاء إقليميين، مهما اشتدّت التوتّرات والشكوك المتبادلة، إلّا إذا اقتنعوا ــ كأسلافهم العثمانيين ــ بأنّ لا خيار آخر أمامهم: تغيير الحلفاء أو التقسيم وخسارة البلد. يقول سمير أمين إنّ "ثورية" الحركة الكمالية خلال حرب الاستقلال، وعداءها للإمبريالية، كانا أساسيين، لأن البريطانيين لم يتركوا لهم خياراً آخر، وقد أصبحت جيوشهم في قلب الأناضول. لهذا السبب، نحن لا نعرف ما سيكون مصير الحلف الأميركي ــ التركي، وهل سيُصان رغم المصاعب والتحديات، أم سيواجه مصير سالفه؟ في كلّ الحالات، المنطقة قادمةٌ على تغييراتٍ تاريخية، وكلّ معركةٍ في الإقليم تسهم في رسم خريطة المستقبل. السؤال الحقيقي هو: لو وجد الأتراك أنفسهم، فرضاً، في حالةٍ تشبه الحرب العالمية الأولى، وتخلّى عنهم الغرب وسعى إلى تفتيتهم ومدّ يده إلى العرب والأكراد، فهل سيكرّر العرب بدورهم خطيئتهم ويستعيدون دورهم عام 1916؟
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/06/17