على هامش «حرب الخليج»
عامر محسن
مع انتهاء «المهلة» الخليجية الليلة، واتّجاه الأزمة نحو التّصعيد والاستطالة، تجري عملية «رصّ صفوفٍ» داخل المعسكرين تحضيراً للآتي وكسباً للحلفاء. رئيس الأركان السعودي كان في موسكو في الأيام الأخيرة ــــ بعد زياراتٍ مشابهة لمسؤولين قطريين قبله ــــ وكلٌّ يحاول إقناع الرّوس بدعم موقفه. الإعلاميون والكتّاب العرب، الذين امضوا الأسابيع الماضية وهم يصلّون لكي تكون هذه «غيمة صيفٍ»، تعبر وتنتهي قبل أن يضطرّوا إلى التعبير عن موقف والاصطفاف خلف المموّل، سيتمّ تجنيدهم واستخدامهم في المعركة كغيرهم ــــ ومساءلة ولائهم وصمتهم.
الخطيئة الأصليّة
في الأساس، قبل أن تشتكي السّعوديّة من «تمرّد» قطر ومن سياساتها وتحالفاتها، وأنّه أصبح لها حضورٌ مستقلّ في واشنطن وقاعدة أميركية، تحتمي بها وتتحدّى الجيران، فإنّ عليها أن تتذكّر جيّداً أنّها هي من فتح الباب ــــ عام 1991 ــــ لدخول الجيش الأميركي إلى الخليج وإقامة القواعد فيه، ومن ثمّ تحوّل قطر إلى محميّة أميركيّة لا تحتاج إلى الرّياض. لم يعد بالإمكان الحديث عن «نظام خليجي» حين وافقت السّعودية على دخول الجيش الأميركي إلى أراضيها والى مياه الخليج، والدّخول معه في حلفٍ مباشر لضرب العراق، وتمّ حينها كسر «المحرّم» (حتّى بعد سنواتٍ من وفاة عبد الناصر، كان من الصعب تبرير استضافة قوات غربية على أرضٍ عربية، على المستوى الرمزي والشعبي، وهو ما كسرته سياسة «النكوص» الخليجية عام 1991). في السّنوات التي تلت الحرب، تمّ توقيع اتفاقاتٍ مع كلّ دول الخليج تقريباً بنيت بموجبها قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وبريطانية في أكثر من بلد، وأقام الأسطول الخامس الأميركي مقرّه في البحرين، فعادت أميركا ببساطة لتستبدل الدّور البريطاني في الخليج قبل عام 1972. كلّ ما فعلته قطر هو أنها اتبعت قواعد «اللعبة» الجديدة، وطلبت قاعدتها الخاصّة، ومن هنا تمكّنت من إعلان استقلالها عن الرياض (في العادة، بالطّبع، تحارب الشعوب وتناضل عقوداً لكي تطرد القواعد والجيوش الأجنبية عن أرضها، ولا تقوم باستدعائها بعد أن ترحل).
في الأصل أيضاً، فإنّ أكثر «التهديدات» والأزمات التي تزلزل المنطقة وتخيف العواصم الخليجيّة اليوم ما هي الّا نتاج مباشر لعمليّة ضرب العراق وتدميره، والتّحالف الذيلي مع الغرب تحت دعوى أنّه «الضامن» الوحيد، وأن العرب أعداءٌ |يحسدوننا» و«يطمعون بنا»، وأنّ هذه الخطوات ــــ أي استدعاء الاحتلال إلى أرضك ــــ هي «ممارسة للسيادة». المفارقة في الأمر هي أنّ كلّ الدّول العربية التي حاربها الخليج بمساعدة واشنطن، وحوّلها إلى خراب خرجت منه قوىً صاعدة تراها عواصم الخليج اليوم «تهديدات»، كانت أنظمتها كلّها (بما فيها نظام صدّام حسين) لا تنتوي صراعاً وجودياً مع الخليج، ومستعدّة للتعايش مع ممالكه والتقارب معها، بل والتنافس على استثماراتها ورساميلها، ولم يكن أحدٌ منهم يدعو أو يطمح إلى تغيير النظام في الرياض.
خلفيات «شخصية»
الدّور الأميركي، وهذا نافلٌ، يبقى الأساس في مسار الأزمة وفي حلّها، وكلّ البواقي تفاصيل. ونحن نتكلّم على رئيسٍ في البيت الأبيض لا يعرف أحدٌ تحديداً كيف يفكّر ولا يمكن التنبّؤ بأفعاله. بل إنّ البعض يستكشف جانباً شخصياً في انحيازات «ترامب» الخليجية، لا يمكن أيضاً تجاهلها بالكامل. دونالد ترامب، على ما يبدو، حاول مراراً الحصول على تمويلٍ قطريّ لمشاريعه في الماضي (وبخاصّة في مرحلة الأزمة المالية وما بعدها)، وقد تمّ رفضه تكراراً، بل إنّ «هفنغتون بوست» تدّعي أنّ لقاءً في الدوحة لطلب التمويل، عام 2010، انتهى بسرعةٍ بعد أن شعر ترامب بالإهانة والاستصغار، وانسحب مباشرةً من الاجتماع. يضيف الموقع الإخباريّ أن إيفانكا وزوجها جارد كوشنر زارا الدوحة أيضاً، وحاولا الاستحصال على تمويلٍ خليجيّ حين كانا في أمسّ الحاجة لضخّ رساميلٍ في مشاريع عقارية ترزح تحت الدين، وتمّ رفضهما أيضاً (لا شكّ أن القطريين يتمنّون لو أن في وسعهم العودة في الزمن والاستثمار بكلّ ثقلهم في كلّ مشاريع ترامب). في المقابل، السّعوديّة تبرّعت مؤخّراً بأكثر من مئة مليون دولار لإيفانكا كي تنشىء مؤسسة خيرية، وعلاقة دونالد ترامب بالاماراتيين قديمة، إذ تذكر تصريحاته الضريبية أنّه يستحصل على ملايين الدولارات سنويّاً ثمن إعارة اسمه لملاعب غولف ومنتجعات في الإمارات، وأذكر أنّ التصميم الأوّلي لـ «نخلة جميرا» في دبيّ كان في وسطه «برج ترامب» مذهّب، ولكن تنفيذه تأجّل ولم يحصل لأسباب تجارية.
على الهامش: هناك شيءٌ يجب أن يُقال عن التشابه ــــ في الجماليات وفي المضمون ــــ بين «نموذج ترامب« و«نموذج دبيّ»، وأنّ إعجاب المستثمرين في دبي بماركة «ترامب» ليس عرضياً أو صدفة. استعمل إعلاميّ أميركي مرّةً تشبيهاً لكي يفسّر لماذا لا يشعر الناخبون الأميركيون الفقراء بغربةٍ عن ترامب البليونير، فيما هم ينظرون إلى جون كيري وهيلاري كلينتون كأثرياء فوقيين. النظرية هي أنّ ترامب، على عكس الباقين، تشبه حياته «فكرة الفقير عن الثري»، بمعنى أنّ الفقير الأميركي يفكّر بينه وبين نفسه «لو أصبحت ثرياً، سأشتري سيارة كهذه، وشقة مذهّبة، وطائرة خاصة أضع عليها اسمي، وسآكل في هذه المطاعم»، فيما نمط حياة السلالات الثرية القديمة في بوسطن لا يعني له شيئاً. بالمعنى نفسه، فإنّ نموذج دبي يشبه «فكرة الدولة المتخلّفة عن التقدّم»: ناطحات سحابٍ لا ضرورة لها (في صحراء كلّها أرضٌ فارغة ورخيصة)، استنساخٌ ــــ في كلّ مكان ــــ لبرج ايفل و«بيغ بن» وقنوات البندقيّة، وواجهةٌ برّاقة تصلح للتصوير ولو أخفت خلفها أكواماً من البؤس والكدح والفساد.
الإعلام
حين تستمع إلى التراشق بين المعسكرين الخليجيين، وتقوم «الجزيرة» بانتقاد الحكم السعودي أو «يفضح» إعلامي خبايا دولة الإمارات وتآمرها على فلسطين، فإنّ الإعلامي يقدّم لك عرضاً أيديولوجياً على مستويين: المضمون الذي يرويه في تقريره، من جهة، وهو من جهةٍ أخرى يعلن لك، بشفافيةٍ وبلا حجب، وظيفته الأيديولوجية ومكانه في المنظومة (أنا أهاجم الإمارات لأنّ هذا هو دوري ضمن لعبة الابتزاز، ولم أكن أقول هذا الكلام البارحة، ولو حصل اتّفاقٌ خليجيّ غداً، فسأصمت عليه مجدّداً).
يخسر الإعلام وظيفته في الهيمنة حين يتعرّى أيديولوجياً بهذه الطّريقة، ويبدو ــــ على حقيقته ــــ أداةً لطبقة ومصالح وتمويل وفئات محدّدة، ولا يعود النّاس يصدّقون التوصيفات من نوع «قداسة الكلمة» و«الإعلام المستقلّ» أو «تحرّي الحقيقة» و«الحيادية» و«المهنيّة»، وباقي الخرافات التي يحبّ الإعلاميون ترويجها عن أنفسهم. العملية ذاتها جرت في الغرب وكانت من أسباب صعود ترامب وأمثاله حين فقد الجمهور ــــ تدريجياً ــــ إيمانه بوسائل الإعلام «التقليدية»، وأصبح ينظر إليها كما هي، صحفٌ لنخبٍ «ليبرالية» في مدنٍ كبيرة، تمثّل ثقافتها وانحيازاتها ومصالحها، وذهب الجمهور اليميني إلى وسائل إعلام بديلة «تمثّله». في السبعينيات، بالمقابل، كانت «نيويورك تايمز» تنجح بتقديم نفسها ــــ في كلّ أرجاء أميركا ــــ كـ«إعلامٍ سائد» و«صحافة وطنية»، لا كطرفٍ سياسي واجتماعيّ، فيمتدّ تأثيرها إلى ما هو أبعد بكثير من «نواتها الصلبة»، وهنا معنى الهيمنة ــــ فتحدّد القضايا والأجندة والمواقف للبلد ككلّ (وكانت هذه النخب قادرة على تجريم وإزاحة رئيسٍ مثل نيكسون، انتخب بتأييدٍ شعبيّ هائل ثمّ اتّحدت ضدّه «المؤسسة» وأذلّته وخلعته، والنخب ذاتها تحلم بفعلٍ مشابهٍ اليوم، ولكن زمن ترامب يختلف عن زمن نيكسون).
في بلادنا أيضاً، الإعلام الخليجي لا يزال موجوداً ومؤثّراً، بمعنى أنّه قادرٌ على بثّ الرسائل وكشف الفضائح وإهانة الأعداء، وهو يتمتّع بميزة الاحتكار، ولكنّ عليك أن تكون على درجةٍ عالية من السّذاجة كي تصدّق، مجدّداً، أيّ شيءٍ يقوله هؤلاء بعد العرض الطريف الذي يقدمّونه اليوم، أو أيّ ادّعاء بالمبدأية و«المصداقية الإعلامية». ومن يؤمن بأن الإعلام في الغرب «مهني» ولا يُشترى فما عليه إلّا أن يراقب الصّراع الإعلامي الموازي الذي يجري بين «مناصري قطر» و«مناصري السعودية» في واشنطن، والمقالات المدفوعة من الجانبين، وكلّهم صحافيون ومفكرون وسياسيّون أميركيون و«بيض» (في مجلّة «ذا هيل»، التي تصدر في واشنطن وتنتشر بين نخبتها السياسية، صدر مقالٌ يكفي اقتباس عنوانه «قطر يتمّ عقابها لأنّها اعتنقت المثل الأميركية» ــــ والكاتب، بالمصادفة، سفير أميركي سابق في قطر ورئيس «مجلس الأعمال الأميركي ــــ القطري»).
الحرب على بلادنا
في بلادنا، «الأزمة» حقيقيّة وليست إعلاميّة، والمعاناة والموت واقعٌ يوميّ. فيما يُسال الحبر في الدفاع والهجوم على قطر، وأصبحنا نحفظ أسماء كلّ أمراء السلالات (وزوجاتهم وبناتهم)، لا أحد يذكر أسماء مدنٍ كاملة دمّرت وهجّرت في اليمن، حرض وميدي والمخا وغيرها كثير، كان يسكنها مئات الآلاف فأضحت ركاماً مهجوراً، والسّعوديّة تتّهم «أنصار الله» بأنّهم يضمرون خطّة لـ «التغيير الديموغرافي في اليمن» (و«خطّة السعودية الديموغرافية» التي وضعتها لليمنيين، على ما يبدو، هي إبادتهم). لا يجوز أن يجري حديثٌ عن الخليج من دون ذكر حربهم القائمة على اليمنيين، والتذكير بأنّ «السياسة» والمبادىء تظهر هناك، وليس على وسائل التواصل الاجتماعي.
من وجهة نظرنا، نحن «العرب الفقراء»، فإنّ أيّ نهايةٍ للأزمة الخليجيّة لن تكون في صالحنا: لو انتصرت السعودية والإمارات فهذا يوازي عملية «استحواذٍ ودمج» في المحور الأميركي في منطقتنا، قد تتبعه مباشرة حربٌ خليجية/ إسرائيلية ضدّ سوريا أو غزة أو لبنان. ولو تصالح الطرفان، فهما سيتّحدان من جديدٍ ضدّنا و«يتفاهمان علينا» كما في السّابق. لهذا السّبب تمنّينا، في بداية الأزمة، أن يطول «المسلسل الخليجي» إلى الأبد وإن كان هذا الخيار ــــ للأسف ــــ غير ممكن.
لا أحد يعرف طبيعة الوعود التي قدّمها حكّام الإمارات والسعودية لواشنطن وتل أبيب، وما يحضّرونه في الخفاء ضدّنا، ولكنّ كلّ النّذر تشير إلى حربٍ قادمة في إقليمنا، وهذا أهمّ بكثيرٍ من «العرس الخليجي» القائم. قد تشنّ الحرب ضدّ لبنان أو سوريا أو العراق أو إيران، أو حتّى ضدّ الكلّ في وقتٍ واحد؛ والمقاومون يعرفون أنّها قادمة منذ زمن، وأنّك لا تملك ترف اختيار التوقيت أو نيل المهل. في الحقيقة، فإنّه من العقلاني والمنطقيّ للعدوّ أن يشنّ حربه في أسرع وقتٍ علينا، فنحن اليوم أقوى ــــ بما لا يقاس ـــــ مما كنّا عليه قبل سنوات خمس، وبعد خمسة أعوامٍ أخرى قد تصبح الحرب ضدّنا مستحيلة. من هنا، لا يسعنا إلّا أن نراقب «العرض الخليجي» من بعيد، وأن نتمنّى الهزيمة للطّرفين، ونتحضّر للحرب القاسية.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/07/05