صاحبة أحقر صفعةٍ في التاريخ
قاسم حسين
مرت قبل يومين ذكرى الحادثة القبيحة التي فجّرت الأوضاع السياسية في العالم العربي... ذكرى صفعة الشرطية التونسية لمواطنها الفقير البوعزيزي.
الشرطية كانت في الـ36، واسمها فادية بنت الطاهر الكيلاني، وهي من قبيلة البوعزيزي ومنطقته (سيدي بوزيد)، وقبل يوم تم تداول فيديو يكشف عن ندمها على تلك الصفعة، حيث اعتبرت نفسها المسئولة عن كل ما يجري في الوطن العربي من نزاعات وقتال وحروب وسفك دماء. أما أب الشرطية فخرج من قبل ليدافع عن ابنته البريئة الطاهرة، ونفى توجيهها الصفعة للبوعزيزي، واعتبرها مجرد شائعات ومحاولات تشويه لابنته البريئة. كما اتهم بن علي بتقديمها كبش فداء حين أمر بسجنها.
المؤكد أنه كان هناك آلاف الصفعات على آلاف الوجوه منذ أيام الجاهلية حتى اليوم، لكن صفعتها هذه دخلت تاريخ السياسة من أوسع أبوابه، وستبقى تلاحقها حتى قبرها. ففي فيلم قصير أُنتج عن البوعزيزي، نشاهد الشاب العاطل عن العمل بعد تخرجه، حيث كان يطمح إلى وظيفة بسيطة دون جدوى، مثله مثل عشرات الآلاف من الخريجين الجدد كل عام في كل الأقطار العربية دون استثناء. وذات يوم كان ماراً بالسوق فيشاهد بائع خضار وقد تجمع حوله عدد (برشا) من المشترين، فراودته الفكرة بأن يقتني عربةً خشبيةً ليبيع عليها الخضار، لكي يكسب (برشا). وفي الشارع الذي بدأ البيع فيه، تتعرّض له الشرطية، فكان يدفع لها بعض المال ليرشيها فيدفع أذاها عن نفسه. وفي يوم الجمعة، 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، اعترضته لتستلم الرشوة كالمعتاد، إلا أنه اعتذر لأنه لم يبع ساعتها شيئاً بعد. فمدّت يدها لتصادر بعض بضاعته أو تبعثرها، فاعترضها وحاول الإمساك بيدها، فما كان منها إلا أن رفعت يدها وصفعته.
لجأ إلى مركز الشرطة ليقدّم ضدها بلاغاً، إلا أن المسئول هناك سخر منه وطرده باستخفاف، فعاد منكسراً إلى الشارع، وهناك أخذت تعصف بعقله الأفكار السوداء، وانتهى إلى فكرة سوداوية بأن يصب زيتاً على نفسه ويشعل الحريق في جسده، ولم يكن يعلم أنه سيشعل بذلك حريقاً هائلاً في هذا الهشيم البشري الهائل المهمّش المقهور، الذي كان ينتظر منذ عقودٍ شرارةً واحدةً فقط، لينزل إلى الشوارع والميادين... بالملايين.
هذه التفاصيل التي لم ننسها جميعاً بعد، أوردها الفيلم القصير، أما الشرطية فقد انتشر عنها شريطٌ آخر، يدّعي أنها تعضّ أنامل الندم على ما فعلته، لأنها المسئولة عن كل ما يجري هذه الأيام في الأرض العربية... حتى أصبح 15 في المئة من نزلاء المستشفيات شباباً يدخلونها بأجسادٍ متفحّمة احتجاجاً على البطالة والقهر والظلم والتمييز والفساد الذي نخر النظام العربي حتى وصل للعظام. ولو لم تكن صفعتها لتسبّب أيّ حدثٍ هامشي آخر في إشعال هذا الحريق التاريخي العظيم.
زين العابدين بن علي، حكم تونس حكماً بوليسياً لمدة ربع قرن، بعد انقلابه على سلفه الحبيب بورقيبة الذي حكم تونس بدوره 30 عاماً. وقبل سقوطه بعام، دهش العالم من الوصف الذي أوردته وثائق «الويكيليكس»، على لسان الدبلوماسيين الأميركيين لتونس، بأنها «بلد تحكمه عصابة مافيا».
بعد سقوط بن علي، فهم القارئ العربي ماذا كانت تعني هذه العبارة، فقد ارتفع الإعلام المضلل الذي كان يستخدمه للتغطية على سوء إدارته وسياساته. وبدأت الصحف تكشف عن حساباته وأمواله وممتلكاته في الخارج، فضلاً عن حسابات زوجته ليلى الطرابلسي وإخوانها وشركاتهم في الداخل والخارج. كما نشرت تقارير عمّا تم العثور عليه في القصور الرئاسية، وأماكن تخبئة الأموال والمجوهرات، وما استطاعت الطرابلسي أخذه ليلة هروبها برفقة زوجها تحت جنح الظلام.
هوّني عليكِ... فأنت لم تفجّري ثورةً ولم تحرّكي شعباً، وإنّما أنتِ مجرد ترسٍ صغير جداً، في ماكنة بيروقراطية ضخمة فاسدة متكلّسة منذ نصف قرن، تجهض آمال الشعوب وتقصف أعمارهم، وستظلين رمزاً شكسبيرياً يتذكّرك العرب لأحقر صفعةٍ في التاريخ.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/12/20