فاتورة ثقيلة وتاريخ من الشحططة
هالة القحطاني
تتطلب منا الفترة الحالية ألا نتجاهل أو نؤجل البت بأمر أي قضية نعتقد بأن أمامها سنوات طويلة قبل أن تتفاقم وتصبح أزمة، أو نتركها للظروف تحلها كيفما تأتي عندما يحين وقتها. فما تجاهلناه وتركناه في الماضي لم يُحل من تلقاء نفسه إلى الآن، بل تراكم وتعقدت خيوطه وتفاصيله، لدرجة لم نعد نميز فيها البداية من النهاية، فبدلا من أن نقدم حلولا عاجلة لإنهاء القضية، انشغلنا وضاع الوقت في محاولات مضنية لفك التشابك الذي أهدر من أعمارنا سنوات طويلة عطلتنا وأخرتنا عن العيش في نفس الزمن الذي يعيش فيه العالم حولنا.
عند انتهاء المرحلة الثانوية عصفت في سمائي ظروف قاهرة غيرت من ملامح خريطة أحلامي، وبالتحديد بعد عطلة الصيف مباشرة، حين بدأت مشواري المهني مبكرا، فوجدت نفسي أقف في إحدى مدارس محو الأمية في مدينة الخبر، كمعلمة للكبار لجميع المواد. كان راتبي حينها 1500 ريال، لم أمانع ذلك الوقت بأن أعمل بأجر زهيد، إلى أن يأتيني القبول في الجامعة، وفي كل الأحوال كنت لأرضى بمبلغ أقل من ذلك لأنني كنت في أمس الحاجة لدخل شهري. في اليوم الثاني من مباشرتي العمل تعرضت لموقف غريب من سائق الأجرة الذي اتفقت معه أن يوصلني يوميا لعملي، حين سلك طريقا أطول أصبح يسلكه كل يوم، لم أفهم في بداية الأمر، وحين طلبت منه أن يرجع للطريق المعتاد، ادعى أن الطريق الذي اختاره قصيرا ولا توجد به إشارات كثيرة، فيما بعد اكتشفت أن هذه المناورات كانت من أجل الحصول على مبلغ أكبر من الذي اتفقنا عليه، وهكذا لم يمر الشهر الأول إلا وكان راتبي بأكمله من نصيب سائق الأجرة. مر على هذا الموقف سنوات طويلة لم أستطع فيها نسيان ذلك الشعور بالهزيمة، كلما فكرت بمن أخذ أول راتب في حياتي.
فيما بعد حصلت على وظيفة براتب أفضل، 2500 ريال في أحد المستشفيات، في البداية شعرت بالبهجة، ولكن حين مر الشهر الأول وشاركني سائق أجرة آخر راتبي بدأت أشعر بالإحباط، فلا أذكر أنني ذهبت إلى العمل دون الشعور بتلك الغصة من مجرد التفكير في أن السائق سيتقاسم معي حصة كبيرة من الراتب. كانت زميلاتي في العمل يأتين بضيق ويغادرن بضيق، حاملات مثلي هم السائق الذي كان يستغلنا بصمت. ولا يلتزم بمواعيد أعمالنا، ففي مرات عديدة يتأخر وأحيانا لا يأتي عقابا لنا لأننا تجرأنا وتذمرنا على زيادة سعر المشوار، ناهيك عن المرات التي كان يتطاول فيها علينا، لأنه من المفترض ألا نعترض من تأخيره، الذي كان يسبب لنا إحراجا كبيرا مع رؤسائنا، فبعضهم كان يوبخنا بقسوة، ولا يصدق بأن التأخير من السائق، والبعض الآخر كان يتهمنا بعدم الجدية والتقصير بشكل جارح. ومثل أي فتيات في مقتبل العمر، في بداية كل شهر اعتدنا أن نخطط ونحلم بالأشياء التي نريد أن نشتريها بعد تقسيم الراتب على المسؤوليات المكلفات بها من قبل أُسرنا، وحين يقترب الشهر من نهايته يتلاشى الحلم، وتهجم علينا حالة الهزيمة، لأننا نعرف جيدا من سيتقاسم معنا جهد ذلك الشهر.
في تلك الفترة، حاولنا مرارا الحصول على مواصلات بأجرة معقولة، ومع ذلك كنا نصطدم باستغلال بغيض مارسه علينا السائقون من جميع الجنسيات. في إحدى السنوات قررنا التعاقد مع حافلة صغيرة تقلنا من منازلنا كمجموعة، فوجدنا مؤسسة تؤجر حافلات لعمال الشركات الصغيرة، تعاقدنا معها بعد أن قيل لنا في البداية، بأنه كلما زاد عددنا سيقل المبلغ الذي تدفعه كل واحدة، ولكن كانوا كلهم انتهازيين وكاذبين، في السنة التالية رفعت المؤسسة رسومها، وحين اعترضنا وتذمرنا، برر السائق بأن علينا أن نتفهم، بأنهم يحتاجون دعما ماليا من أجل تغيير زيت الحافلة تارة والإطارات تارة أخرى! ومن لا يعجبها عليها أن تغادر. وهكذا استمر مسلسل الاستنزاف إلى أن بدأت زميلاتي بالانسحاب الواحدة تلو الأخرى، والعودة لسيارات الأجرة ثانية.
تاريخ قديم من الشحططة، وفاتورة ثقيلة تحملتها القوى العاملة النسائية في المملكة منذ عقود، لم تجد إلى الآن حلولا عادلة أو مرضية، بل ما زالت تكبد المرأة العاملة خسائر مالية وبشرية، سواء كانت موظفة تستغل من قبل سائقي الأجرة، أو معلمة تضع روحها على كف عفريت في رحلات متكررة لمناطق نائية، مع سائقين من جنسيات متعددة لا يكترثون لسلامة من معهم، بل بالكسب المادي فقط، لأن كل الظروف المتاحة أمامهم تشجعهم على الاستهتار والاستغلال.
ولا يمكن أن تستمر القرارات التي تتعلق بهذا الشأن أن تبنى وتصاغ قياسا على الطبقة المخملية أو الثرية التي يعيش وسطها أغلب المسؤولين ومن بيدهم القرار، فيضعون حلولا مؤقتة كتوفير شركات مثل أوبر وكريم، معتقدين بأنها لن تكبدنا فاتورة ثقيلة، وستنهي تاريخنا القديم مع الشحططة.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/07/16