اتفاق الجرود: تنسيقٌ أمني مع دمشق بغطاء سياسي
نقولا ناصيف
بلا تنسيق مع سوريا لم يكن في الإمكان تطبيق اتفاق وقف حرب الجرود (هيثم الموسوي)
ما لم تشأ حكومة الرئيس سعد الحريري الخوض فيه علناً جراء انقسامها الحاد عليه، عوّضه اتفاق الجرود: تنسيق مع سوريا وضعه موضع التنفيذ. مع أن الحجة في الظاهر أمنية محدودة، واقع الأمر أن التواصل المباشر مع دمشق ظلله غطاء سياسي
تترك المرحلة الثانية من الاتفاق المعقود بين حزب الله و»جبهة النصرة» عبر المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، بعد مرحلة أولى قضت بتبادل الجثامين بين الطرفين، أكثر من دلالة ذات مغزى حيال علاقة سوريا بهذا الاتفاق:
أولاها، حتمية التنسيق الأمني مع نظام الرئيس بشار الأسد أياً تكن الاعتراضات السياسية التي لم تتعدّ في موضوع الاتفاق الحالي رفع النبرة فحسب.
لم يكن في الإمكان وضع الاتفاق بين حزب الله و»جبهة النصرة» موضع التنفيذ منذ الأحد، لو لم تكن السلطات السياسية اللبنانية على علم بالتنسيق مع دمشق وموافقتها عليه سلفاً. بدا التنسيق هذه المرة أكثر سهولة من المرات السابقة التي اقتضت، في وساطات إبراهيم لاستعادة جثث تلكلخ (2012) وإطلاق رهائن اعزاز (2013) وراهبات دير سيدة معلولا (2014)، أكثر من زيارة لدمشق، في أحداها قصدها ثلاث مرات على التوالي في مدة وجيزة. في الاتفاق الحالي اكتفى بمكالمة هاتفية قدمت على إثرها السلطات السورية قاعدة لوجيستية مهمة لتنفيذ الاتفاق، بتوفير 200 باص يتسع كل منها لـ50 شخصاً من المغادرين من المسلحين المتطرفين وعائلاتهم. وهي ستكون معنية بسلامة عبور الباصات براً من جرود عرسال إلى إدلب في مناطق نفوذ الدولة. في جانب من هذا التنسيق تتعامل دمشق مع الاتفاق على نحو مشابه لما رافق صفقة التبادل مع راهبات دير سيدة معلولا.
وسيط بين «داعش» والمفاوض اللبناني تتكتم السلطات عن هويته
شأن ما كنّ راهبات سوريات، تتصرّف سوريا حيال الاتفاق الحالي على غرار ما يُعدّ مصالحات أجرتها على أراضيها المتنازع عليها بين الجيش السوري والمسلحين المتطرفين، ومعظم هؤلاء سوريون، بتسهيل مغادرتهم إلى مناطق التوتر والاشتباك بغية إراحة دمشق وحمص وحماه وحلب وأريافها الواقعة تحت سيطرة الجيش السوري، وتالياً حصر الاشتباك معهم في مناطق الاقتتال كالرقة وإدلب وسواهما. وهي سابقة في تاريخ الحروب الأهلية، لم تشهدها الحرب اللبنانية حتى في موجات النزوح والتهجير.
ثانيتها، من دون تنسيق مباشر مع سوريا لم يكن في الإمكان انجاز اتفاق يحول دون استمرار حرب الجرود وتطبيقه، بعدما أعلنت «جبهة النصرة» استسلامها واستعدادها للتفاوض الذي يقتضي عندئذ المرور بالمعبر السوري الحتمي. بديل الاتفاق استمرار الحرب ومضي حزب الله في تصفية ما تبقى من جيوب إرهابية في جرود عرسال. إلا أنه أفضى إيضاً إلى استعادة حزب الله جثامين شهدائه. من شأن الاتفاق الذي طلبه الفريق الآخر تخفيف الضغط السياسي الداخلي على حزب الله من خصومه المحليين والجدل الدائر عن خوضه هو، دون الجيش اللبناني، معركة تحرير جرود عرسال، قبل أن تفضي نتائج ما حدث إلى انتقال المهمة إلى الجيش في جرود رأس بعلبك ــــ القاع.
ثالثتها، من السذاجة الاعتقاد بأن التنسيق الأمني خلا من تأييد سياسي رسمي، وإن بخفر لأسباب ترتبط بأولئك المترددين بالجهر بمواقفهم. من دون ضوء اخضر كان من المتعذر تكليف المدير العام للأمن العام التواصل مع نظراء أمنيين سوريين له. ومن دون موافقة سورية رسمية في المقابل على المهمة والوسيط تبدأ من رأس الهرم هناك لما كان في الإمكان وضع الاتفاق الحالي موضع التنفيذ. ومع أن التنسيق الأمني دوري في أكثر من حدث من غير أن يكون تحت الضوء بالضرورة، إلا انه حتمي في علاقة الأمن العام كما مديرية المخابرات في الجيش بالأجهزة السورية النظيرة بإزاء الكمّ الكبير من الأعباء التي ترتبت على النزوح السوري والهجمات الإرهابية ذات المصدر السوري أو أبطالها سوريون.
لم يقتصر التنسيق على الملفات المعلنة منذ عام 2012، بل شمل ولا يزال تبادل معلومات مع دمشق ومع أجهزة استخبارات دولية ترتبط بانتقال سوريين مشتبه في علاقتهم بالإرهاب ما بين دول الاتحاد الأوروبي، كذلك الأمر بالنسبة إلى توقيف الأمن العام سوريين ثبت ضلوعهم في تفجيرات إرهابية أو تعاونهم مع «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» و»سرايا أهل الشام» وسواها، انبثقت بدورها من تبادل المعلومات بين الطرفين. ناهيك بأكثر من مهمة للوسيط اللبناني المدير العام للأمن العام في إطلاق رعايا دول أجنبية أوقفوا لدى الحكومة السورية أو سواها. وفي معزل عن كل ما يقال عن انقسام في حكومة الرئيس سعد الحريري حيال التفاوض الرسمي مع الحكومة السورية بإزاء ملف النازحين وعودتهم إلى بلادهم ــــ وهو انقسام غير قابل للتذليل ــــ يشق التنسيق الأمني بين البلدين مسلكاً مستقلاً متكاملاً بعيداً من الضجيج تحت وطأة متطلبات مواجهة الإرهاب. كلا الملفين، التنسيق الأمني وعودة النازحين، منفصل أحدهما عن الآخر. بمقدار ما يحافظ الأول على سرّيته وإدارته في الخفاء بعيداً من السجالات بيد انه تحت المظلة السياسية، يخضع الثاني لقرار الحكومة اللبنانية سواء آن موعده أو لم يحن.
رابعها، أن خوض الجيش اللبناني معركة تصفية «داعش» في جرود رأس بعلبك ــــ القاع حتمي استكمالاً لما كان بدأه حزب الله في جرود عرسال. وخلافاً لما سبق الأيام الستة من حرب الجرود الأولى عندما حال القرار السياسي دون تولي الجيش المهمة تلك، فنفذها حزب الله، تبدو الفضيلة الرئيسية لما حدث في جرود عرسال أن مهاجمة الجيش معاقل «داعش» بات مطلب المسؤولين المتحفظين في ما مضى ومطلب السياسيين المناوئين لحزب الله كي لا يجني مجدداً ثماره. مع ذلك فإن الأبواب غير موصدة أمام اتفاق محتمل على غرار اتفاق جرود عرسال. وتبعاً للواء إبراهيم، فإن مسار العمليات العسكرية الذي قاد إلى استسلام «جبهة النصرة» في جرود عرسال، من شأنه أن يحدد بدوره في ضوء الانطلاق الوشيك للعمليات العسكرية للجيش أي مصير سيختاره مسلحو «داعش» والدائرون في فلكه في الجرود الأخرى المحتلة.
من دون تحرّك ميداني ضد التنظيم المتطرّف ــــ وهو وشيك ــــ سيكون من المتعذّر قياس رد فعله واستعجال ذهابه إلى اتفاق استسلام مماثل. لا يحجب ذلك القول أن ثمة وسيطاً بين التنظيم والمفاوض اللبناني تتكتم السلطات الرسمية اللبنانية عن كشف هويته، إلا أنه يحاول الاضطلاع بدور يفضي إلى خاتمة تجنّب طرفي الحرب وقوعها الحتمي.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/08/01