دور الفرد في التاريخ
يوسف مكي
القائد يؤكد قوة حضوره بالأدوار التي يؤديها، مستجيبا لنداء التاريخ والضمير. وبالقدر الذي تكون فيه الأزمة كبيرة ومتشعبة بالقدر الذي يتعدد فيه وجود القادة التاريخيين
قال البعض الآخر؛ إن التاريخ هو تعبير عن صعود قوى اجتماعية جديدة وهبوط أخرى. وإن الذي يحكمه هو التطور الاجتماعي، والصراع من أجل البقاء. وقد وصف بعضهم التاريخ بأنه رصد للحركة، لكن الفيلسوف الألماني جورج هيغل خالف ذلك، موضحا أن التاريخ يقوم على أكتاف رجال عظام. ويتفق فيلسوف ألماني آخر هو ماكس فيبر مع هيغل، في هذه النظرة، فيركز على دور القائد التاريخي، المتمتع بقوة جاذبيته، معتبراً بسمارك، موحد ألمانيا، أهم صنّاع التاريخ الحديث. لكنه لا يتناسى دور القبيلة، في مرحلة تاريخية أولية، مع تقرير أن قمة التاريخ هي سيادة العقلية القانونية.
في الموروث العربي، لكل زمن رجاله. بمعنى أن طبيعة المرحلة هي التي تحدد خصائص القادة وليس العكس. والزمن هنا ليس حالة مجردة. فالحياة المعتادة، خارج الأزمة، ليست بحاجة لأشخاص من نوع استثنائي، إذ ليس هناك ما يستدعي حضور القائد التاريخي. إن لحظة التحول والغليان والصخب هي التي تنجب أبطالها وتحدد مواصفاتهم.
لكن هذا الواقع، لم يلغ السجال، القديم الجديد، حول دور الفرد في التاريخ. فهناك نظريات لا تزال تعتبر الفرد نتاجا لمرحلة تاريخية، ولقوى اجتماعية مؤثرة تدعمه وتؤثر في سياساته. بل إن بعض النظريات ترفض أن يمنح الفرد أي دور حقيقي خارج الجماعة. إنه يستمد قوته وحضوره، من خلال الشرعية التي يمنحها له شعبه. ومن غير هذه الشرعية، لا يكون بمقدوره تقديم أي شيء، أو التأثير في الأحداث التي تجري من حوله. ويستخدم للتدليل على ذلك نظريات التطور الاجتماعي.
في العصر الحديث، برزت الصورة، مجسدة بقوة حضور القادة الكبار. وقد برز هذا الدور بوضوح بعد بروز الشاشة الفضية، خلال العقود الخمسة الأخيرة. وكلما تطورت صناعة التلفزة وتوسعت آفاق استخداماتها، وتضاعف عدد مشاهديها، تطور أكثر فأكثر، دور الكاريزما في صناعة القائد.
ولعل الكثير منا، لا يزال يستحضر صورة الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، مستقبلاً رصاص الجنود الصهاينة، وهو في حضن والده. هذه الصورة كانت من العلامات البارزة في انتفاضة الأقصى. لقد اقتنص أحد المصورين لحظة إطلاق النار على الشهيد، فالتقط الصورة، وعممت في الفضائيات كاشفة وحشية الكيان الصهيوني الغاصب. لكن واقع الوحشية «الإسرائيلية» هو أكثر رعباً وقسوة من تلك الصورة. لقد تمثل هذه الوحشية، في بعض صورها محاصرة مخيم جنين، ومنع الدواء والغذاء عن سكانه. وحملة إبادة بحق الأطفال والنساء بالمخيم. لكن الصورة لم تكن حاضرة، ومع غياب الصورة غابت القصة الكاملة للفاجعة.
<p style="\"text-align:" justify;\"="">وأخيراً، مشهد انتحار البوعزيزي في تونس بحرق نفسه احتجاجاً على الأوضاع الاجتماعية المتردية، وعلى المهانة التي تلقاها من شرطية منعته من ممارسة مهنته بائع خضروات على عربة متنقلة، وقد اعتبرت هذه الحادثة الشرارة التي فجرت الثورة التونسية. ترى كم فرد انتحر في عدد من الأقطار العربية، وفي العالم قبل وبعد حادثة البوعزيزي، من دون أن يترك ذلك أي أثر، ومن غير أن نتمكن حتى من استحضار أسمائهم. إنها إذًا اتحاد اللحظة التاريخية، والصورة في صناعة الحدث والرمز، لتؤكد مجدداً أن لكل زمن رجاله، ولتؤكد دور اللحظة في صناعة القائد التاريخي.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/08/30