دروس روسيّة: أين تذهب الثروة؟
عامر محسن
في إطار مشروعه لإعداد بيانات إحصائية تاريخية ــــ قابلة للمقارنة ــــ عن توزيع الدّخل في أكثر دول العالم، نشر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي (مع زميليه فيليب نوفوكميت وغابرييل زوكمان) الدراسة الخاصّة بروسيا، وهي تغطّي المرحلة الممتدّة من سبعينيات القرن التاسع عشر وصولاً إلى عام 2015، لتشمل بذلك مراحل الحكم القيصري والشيوعيّة و، أخيراً، الانفتاح والسّوق الحرّ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
سنعرض من هذه الدّراسات ثلاث «لمحاتٍ» فحسب، أو خلاصات إحصائية، قبل أن نبدأ النّقاش:
الخلاصة الأولى تتعلّق بتطوّر الدّخل في روسيا. يقوم بيكيتي وزملاؤه بمقارنة دخل الراشد الروسي مع نظيره في اوروبا الغربية على طول قرنٍ ونصف قرن ليخرج معنا المسار التّالي: طوال المرحلة القيصرية، كان دخل الرّوسي يوازي ثلث دخل الأوروبي (أو أكثر قليلاً أو أقلّ قليلاً)، ثمّ شهد الدخل الرّوسي ارتفاعاً حادّاً وسريعاً خلال فترةٍ قصيرة بدأت في أواخر العشرينيات (أي مع انطلاق المرحلة الستالينية)، حتّى أصبح دخل المواطن الرّوسي يوازي أكثر من 65% من دخل الأوروبي في أواخر الأربعينيات. لم تتغيّر هذه النّسبة بشكلٍ كبير بعد هذه «القفزة»، وتراوحت بين 55% و70% منذ الخمسينيات والى حين سقوط الاتحاد السوفياتي، حين شهدت مرحلة التسعينيات و«علاج الصدمة» انهياراً كبيراً في الناتج القومي الرّوسي، حتّى عاد دخل المواطن مقارنة بالأوروبي الى النسبة ذاتها التي كان عليها أيّام القيصرية ــــ الثّلث. منذ أواخر التسعينيات، مع رحيل يلتسين وارتفاع أسعار النفط والنموّ، أدّى الإزدهار إلى ارتفاع دخل الرّوسي مجدّداً حتّى وصل إلى ما كان عليه في الخمسينيات والسبعينيات (مع فارق العدالة في توزيع الدّخل، فالاتحاد السوفياتي كان من أكثر الاقتصاديات عدالةً في توزيع المداخيل، فيما روسيا حالياً، بحسب أرقام بيكيتي وزوكمان ونوفوكميت، قد ارتفعت فيها الفوارق باضطراد منذ 1990 حتّى أصبحت الأرقام ــــ حصّة العشرة في المئة الذين هم «فوق»، والأربعين في المئة في المنتصف، والخمسين في المئة الذين هم «تحت» ـــــ تتطابق بشكلٍ كاملٍ تقريباً مع ما كانت عليه في العهد القيصري.
النّقطة الثانية هي حول الثروات الخاصة والملكية العامّة. تقول الدراسة إنّ حجم الأصول المالية التي كانت تمتلكها الأسر الروسية عام 1990، أواخر أيام الاتحاد السوفياتي، كانت توازي 70 ــــ 80% تقريباً من الناتج الوطني السنوي، وهي نسبةٌ منخفضة بالمقاييس الغربية وكلّها على شكل حسابات مصرفية للمواطنين. المدهش، بحسب قول كاتبي الدّراسة، هو أنّ هذه الثروة قد تناقصت بشكلٍ حادّ خلال التسعينيات، ومحا التضخّم المدخّرات السوفياتية، حتّى وصل حجم ثروة الرّوس إلى أقلّ من 30% من الناتج القومي. المفارقة هنا هي أنّ هذه الفترة، تحديداً، قد شهدت تخصيص أكثر أملاك الدّولة (التي كانت تساوي أكثر من أربعة أضعاف الناتج الوطني السنوي) و«توزيعها على الناس»، على شكل أسهمٍ في شركات وسندات. الملكية العامة تمّ تسييلها، ولكنها لم تظهر في جيوب النّاس، فأين ذهبت كلّ هذه الثروة؟ بعد الازدهار الروسي في عهد بوتين وميدفيديف، تقول الدراسة، ارتفعت الأصول المالية للروس مجدّداً، ووصلت إلى الحدّ الذي كانت عليه عام 1990، أي أننا نقارن بأسوأ مراحل الاتحاد السوفياتي وسنوات الانحدار والانهيار (وهنا أيضاً أمرٌ غير قابلٍ للتفسير، تقول الورقة، فالمواطن الروسي اليوم يمكنه الحصول على أصول مالية بأشكالٍ لا تحصى: مال، سندات، أسهم، استثمارات، الخ. فيما كان، في الفترة السوفياتية، لا يمتلك «أدوات مالية» باستثناء ما يوفّره من راتبه القليل).
المفارقة الثالثة هي عن علاقة روسيا بالسوق الدّولي. تقول الدراسة إنّه يوجد، أيضاً، لغزٌ ما هنا. روسيا، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، تحقّق كل سنة بلا استثناء ــــ بفضل صادرات الغاز والنفط والموارد الطبيعية ــــ فوائض تجارية هائلة في علاقتها مع العالم، بمعدّل 10% من كامل الناتج الوطني، كلّ سنةٍ، طوال ربع القرن الماضي (حتّى نفهم الحجم الأسطوري لهذه الفوائض، تورد الدراسة أن الصّين، بصناعاتها وصادراتها، لم يمثّل فائضها التجاري أكثر من 3% من الناتج الوطني كمعدّل خلال الفترة ذاتها). بمعنى آخر، روسيا تصدّر أكثر مما تستورد بكثير، وهذا التّراكم من المفترض أن يُترجم أصولاً روسيّة ضخمة في الخارج، على شكل أرصدةٍ أجنبية ومعادن واستثمارات وغيرها، تفوق قيمتها 200% من الناتج السنوي الروسي (وثلاثة أضعافه، تضيف الدراسة، اذا احتسبنا العوائد على هذه الرساميل خلال تلك الفترة). في الحقيقة، فإنّ رصيد روسيا الخارجي اليوم (أي الفارق بين ما تمتلكه في العالم وما يمتلكه مستثمرون أجانب في روسيا) لا يزيد على ربع الناتج القومي السنوي، فأين اختفى كلّ هذا المال؟ السبب الأساسي الذي خرج به معدّو الدراسة هو أنّ هذه الدولارات قد تمّ، ببساطة، تهريبها إلى خارج البلد ولم تدخل الحسابات الرسمية، وهي اليوم موجودة على شكل أرصدة في سويسرا وعقارات في لندن وفي نيويورك. تقدّر الدّراسة حجم ثروة الـ«أوفشور» الروسية هذه، اليوم، بأكثر من 70 ــــ 80% من الناتج الوطني، أي ما يساوي تماماً كامل ثروة المواطنين الروس في روسيا (بكلمات أخرى، فإنّ المصالح ورجال الأعمال الذين سيطروا على الاقتصاد ويهرّبون المال الروسي إلى الخارج قد عقدوا مع مواطنيهم الصفقة التالية: نحن سنحصل على نصف الثروة وأنتم، الـ140 مليوناً، سيبقى لكم النصف الآخر).
أن تبني اقتصاداً وطنياً
ماذا نتعلّم، كعربٍ، من الأرقام أعلاه؟ في هذه السجلات الإحصائية أمثولتان، ليستا خفيّتين أو جديدتين ولكنّهما تتعارضان بالكامل مع مبادىء «السّوق الحرّة» والسياسات التي ينصح بها «توافق واشنطن» النيوليبرالي. أوّلاً، أنّ مرحلة النموّ والتقدّم الاقتصادي الذي يفيد الأغلبية لا تأتي إلّا حين تقوم الدّولة بحشد وتوجيه موارد البلد بشكلٍ قصديّ، كما في روسيا الثلاثينيات، وليس حين تترك السوق لعقاله وتفتح الباب لـ«المبادرة الفردية» ونملّك البلد للأثرياء؛ وأنّ المهمّة الأساسية للدولة النّامية هي في تحقيق هذا المستوى من التّنظيم (ويوجد هنا ارتباطٌ وتشابهٌ واضحٌ بين المهمّة الاقتصادية وتلك العسكريّة).
ثانياً، نكتشف أنّه حتى في ظلّ «الأداء الجيّد»، حين تصدّر أكثر مما تستورد وتحقّق نموّاً في العمل والإنتاجيّة، فإنّك قد تخرج خاسراً باستمرار إن كنت لا تتحكّم بعلاقتك وعلاقة أصحاب الأموال في بلدك مع السوق الدولي؛ أو، بمعنى آخر، إن خسرت السيادة الاقتصادية. يذكر التقرير أنّ الصّين، مع أنّها تحصل ـــ نسبياً ـــ على فائضٍ أقلّ من روسيا في تبادلها مع الخارج، الّا أنّها قد راكمت احتياطاً أجنبياً أكبر بكثيرٍ من روسيا والسّبب، يضيف البحث، هو أنّ الصّين تتحكّم بالرساميل وتضع قيوداً على خروجها، وتمنع الأجانب من الاستثمار على هواهم في البلد، وتصرّ على مبدأ السيادة الاقتصادية (كانت تلك المرّة الأولى التي أقرأ فيها التعبير في نصٍّ اقتصادي ليبرالي في صيغةٍ ايجابية). أحدى النقاط المضيئة في الاقتصاد الروسي في العقد الأخير كانت الصناعات الغذائية والإنتاج الزّراعي، حيث تحوّلت روسيا ــــ خلال سنواتٍ قليلة ــــ من مستوردٍ للحبوب إلى أكبّر مصدّري القمح قاطبةَ؛ وقد استعادت، في العام الماضي، مستوى الإنتاج السوفياتي في الثمانينيات. هذا التقدّم كان له سببٌ وحيدٌ وواضح: العقوبات المتبادلة بين روسيا والغرب، التي عزلت البلد عن سوق الأغذية الأوروبي وأجبرته على تطوير إمكانياته ــــ هنا أيضاً، من دون سياسة وتنسيقٍ واعٍ، قد يذهب أغلب هذا السوق إلى حفنةٍ من الشركات الزراعية الضخمة في روسيا، التي يملكها مليارديرات معروفون، ويتمّ التعامل معها كأيّ استثمارٍ رأسمالي (تهرّب ثماره، في نهاية الأمر، خارج البلاد)، ولا يتمّ استخدام هذه الفرصة لتشغيل أعدادٍ كبيرةٍ من النّاس وخلق دورةٍ تعزّز الاقتصاد ككلّ.
في أحد البيانات الإحصائية في تقرير بيكيتي، يقدّر المؤلّفون توزيع النموّ الروسي خلال العقود الماضية على مختلف طبقات الشّعب، والنتيجة مذهلة. حقّق الاقتصاد الروسي، منذ عام 1990، نموّاً بمعدّل 1.9 في المئة، وهو رقمٌ جيّد بالمعنى المقارن. إلّا أنّ 99% من ثمار هذا النموّ، بين التسعينيات وعام 2015، قد ذهبت لمصلحة العشرة في المئة الأكثر ثراءً من الشّعب. الأربعون في المئة الذين هم في الوسط لم يحصلوا إلّا على 16% من مجمل النموّ، في حين أنّ أفقر خمسين في المئة من الشّعب الرّوسي قد خسر (حرفيّاً) ما يوازي 15% من النموّ العام. بمعنى آخر، الطبقات الفقيرة لم تحصل على «توزيعٍ غير عادل» من ثمار النموّ، كما نقرأ في الأدبيات الاقتصاديّة، بل هي خسرت وتراجعت ونزفت من دخلها، حتّى حين كان الاقتصاد يزدهر، لمصلحة من هم فوق. هكذا تعمل |«الدّورة الرأسمالية» في دول الجنوب: تنتقل الثروة من الطبقات الفقيرة الى النّخبة، ومن ثمّ تهرّبها النخبة إلى الخارج. هذه العملية تصف بدقّةٍ ما جرى في دولٍ كمصر وسوريا والأردن، حيث ترافق النموّ الظاهري للاقتصاد مع إفقارٍ لغالبية الشعب (ولا ريب في أنّك لو طبّقت المنهجية ذاتها على مصر لخرجت بنتائج أكثر فظاعة بكثير).
الفرضيّة الاشتراكية
الخلاصة هي أنّ هذه العوامل التي لا غنى عنها لبناء اقتصادٍ لا ينزف الثروة وشعباً منتجاً يراكم المعرفة هي سياسيّة بالكامل، ولا علاقة لها بالجوانب «التقنية» من علم الاقتصاد، ولا بالنماذج والتوصيات التي تنتجها المؤسسات الغربية ــــ باستمرارٍ وفي أدبياتٍ «خالية من السياسة». الشّروط التي طرحناها أعلاه (السيادة الاقتصادية، توجيه الدولة للإنتاج والاستهلاك، الحرص على توزيعٍ عادلٍ للدخل) لها، ببساطة، اسمٌ وعنوان: الاشتراكيّة، الكلمة التي يتجنّبها الجميع. ولأنّ المسألة سياسية، فإنّ الاشتراكيّة ستظلّ غائبةً عن خطاب النّخب التي خلقها السّوق (من رجال الأعمال إلى نجوم الإعلام): من منهم يريد، حقّاً، أن يعيش في بلدٍ متساوٍ، تعمل فيه بمجهوليّة وكرامة، ولا مكان فيه للنجوميّة والتّسلّق السّريع، ولا يهمّ فيه ما اسم عائلتك أو من هم أصدقاؤك؟ هل يريدون عالماً لا مكان فيه لأكثر وظائف النّخب المهيمنة اليوم، من وكيل الشركة الأجنبية إلى موظّف المنظّمة الغربية؟ أكثر هذه النّخب تفضّل الحديث عن «المسألة الديمقراطية» بدلاً من «المسألة الزراعيّة»، وهي بالمناسبة أساس كلّ شيءٍ في دول الجّنوب؛ وستُبذل الجهود باستمرارٍ لشيطنة الاشتراكيّة (في أيّ صيغةٍ) وإقناع شعوب الجّنوب بأنّ الرأسمالية الليبرالية، كما يتخيلها لهم الغرب، هي الطريق الأفضل أو الوحيد المُتاح.
في لقاءٍ تلفزيونيٍّ أخير، شرح الملياردير المصري (والسياسي من دون منصب) نجيب سويرس بأنّ مشكلته مع عبد النّاصر هي أنّه «أراد أن يوزّع الأرزاق بدلاً عن ربّنا» (لاحظوا في أيّ سياقٍ يظهر التديّن والورع). ولماذا تكون أنت ثريّاً وغيرك لا؟ «اسأل الله»، يجيب سويرس، فالمسألة بالنسبة إليه روحانيّة بالكامل، وأيّ محاولةٍ لشرحها وتفسيرها هي تحدٍّ للناموس الإلهي. حين يصل المتحكّمون إلى هذه الدرجة من الثّقة بالنّفس، لا يعود أمام «من هم تحت» ــــ لو أرادوا مستقبلاً وأملاً ــــ سوى أن يثبتوا لسويرس ومن مثله أنّهم قد فهموا الإرادة الإلهية بشكلٍ خاطئ تماما، وأن الله ليس إلى جانبهم كما يتخيّلون بل هو، في الحقيقة، غاضبٌ عليهم إلى أقصى حدّ.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/09/20