الاستحقاق: وحدة العراق
عامر محسن
يوجد فارقٌ أساسيّ بين الحركات القومية ومفهوم الهوية الوطنية في دول الجنوب وبينها في الغرب. الهويّة القوميّة بالنسبة إلى شعبٍ خارجٍ من الاستعمار ليست هويّة «انتصارية» أو «توسعيّة» أو، حتّى، «مكتملة»؛ بل هي هويّة شعبٍ خارجٍ من تجربة احتلالٍ وهزائمٍ وإذلالٍ، وتمييزٍ عنصريٍّ ضدّه يجري على أرضه، وحاكم أجنبي لقّنه على مدة عقودٍ ــــ أو قرونٍ ــــ بأنّه دونيٌّ وأن ثقافته وتراثه بلا قيمة. لهذا السّبب، يكتب فرانز فانون، لا يمكن لك أن تتوقّع من شعوب العالم الثّالث، وهي بالكاد حازت استقلالا وبلداً، أن تطرح هويّتها وتراثها وتاريخها جانباً وأن تذوب، مباشرة، في مشروعٍ أممي إنسانيّ.
الإنسان الذي عانى طويلاً من الإهانة والقمع «يحتاج»، أوّلاً، إلى استعادة ثقته بنفسه، وفخره بماضيه وهويته، وشعوره بالاستقلال والذاتية، ومن الطبيعي أن يلتفّ الناس في نضالهم حول حركاتٍ من هذا النمط (وهذا ما لم يفهمه العديد من الماركسيين الغربيين في القرن العشرين، الذين زايدوا على الأحزاب الشيوعية في فييتنام وكوريا وغيرها وانتقدوها لأنّها قامت على أيديولوجيات قومية ومحليّة، ولم تنصهر بشكلٍ كامل في بوتقة «الأممية»).
أمّا في الغرب، من جهةٍ أخرى، حيث البلد راسخٌ ومزدهرٌ وله مكانٌ بين الأمم، فإنّ النزعات القوميّة كثيراً ما تعبّر عن الجانب الأسوأ من الهويّة: الخرافات عن الذات والتّاريخ، الفوقيّة والاحتفاء الفارغ بالنّفس، والقوميّة كهويّة موجّهة ضدّ الآخر (nativisim)، سواء «الآخر» على صورة المهاجر والأقلية داخل البلد، أو الشّعوب والأعراق الأخرى في العالم.
في الوقت ذاته، فإنّ الهويّة القومية في دول الجّنوب قد تأخذ عدّة أشكال. حين تخسر الحركة القوميّة طابعها الشعبي، الاشتراكي، المعادي للاستعمار ــــ والذي ميّز قوميّات العالم الثّالث في أواسط القرن العشرين ــــ فهي تتحوّل مباشرةً إلى ما يشبه الحركات الإثنيّة في الغرب اليوم: رجعيّة وعنصريّة وتقوقع على الذات، وواجهة لنخب شعبوية ومتسلّطة. حين تخسر التجربة القومية طابعها التحرّري والمساواتي، الذي يسمح لابن الجّنوب بالتّماهي مع تجربة غيره، ويجعل العربي يتعاطف مع الهندي واللاتيني والفييتنامي، فإنّنا نصبح أمام كائنٍ مختلف تماماً. هذا هو الفارق بين العروبة بمعناها التحرّري و»العروبة» حين تخرج من أفواه أبناء زايد وحكّام الرّياض وقطر؛ ولهذا السّبب نجد أنّ كلّ برجوازيّة عربيّة، في العقود الماضية، تنتج نموذجاً لهوية «قطريّة» ــــ عراقية ولبنانية ومصريّة الخ ــــ لا تشبه إلّا مفهوم دونالد ترامب عن «أميركا أوّلاً»: خواءٌ وفوقيّة وتعريف للذات عبر التضاد مع الآخر (التديّن، بالمناسبة، يتبع المعادلة ذاتها في السياسة، ما أن يصبح رأسماليا ومتصالحاً مع الغرب حتّى يستحيل إلى حركةٍ رجعيّة ونخبويّة لا أكثر، يستخدم الآخرة لتسكين النّاس في الدّنيا، ويوجّه كراهيته إلى «المخالف في العقيدة» حصراً، ولو كان جاره وأخاه). مثل العروبة تماماً، فإنّ مسارات ومآلات الحركات القومية الكردية خلال القرن الماضي، وصولاً الى ما يجري اليوم في العراق، هي دليلٌ واضح على هذا التفريق الجوهري (إلّا أن أردت أن تعتبر، كما يفعل البعض اليوم، أنّ بعض القوميات بطبيعتها فاشيّة وشريرة، والبعض الآخر «أخلاقي» وشرعي).
في الواقع
هناك مشكلة في من يربط بين الموقف من مسألة الانفصال في العراق وبين الحقوق القوميّة و»حق تقرير المصير»، وهي ليست فقط في أنّ «حقّ تقرير المصير» لا يساوي حقّ إعلان الدّول، بأيّ شكلٍ وعلى أيّ أرضٍ وفي أي وقت؛ وأنت، حين تنطلق من هذه الفرضية الساذجة عن الحقّ المطلق بإنشاء الدّول لمن يرغب، فأنت لا تقدّم موقفاً «ليبرالياً» أو «إنسانيا» ومتسامحاً، بل تدعو ــــ عملياً ــــ جماعات الدنيا إلى التّقاتل حتّى يثبت الأقوى نفسه. المشكلة الأكبر هي أنّه لا توجد أي صلة، من أي نوع، بين الحقوق الثقافية والقوميّة والإثنية، أو «حقّ تقرير المصير»، وبين أن تقتطع (بمعونة الأغراب) جزءاً من بلدٍ، ثمّ تتوسّع وتضع يدك، من غير أيّ حقّ أو قانون، على أجزاء أخرى شاسعة، ثمّ تضع سوراً حولها كلّها وتقرّر ــــ أحاديّاً، ومن دون تفاهم أو تفاوض أو مسوّغٍ قانوني ــــ «هذا لي». وحين تفعل مثل ذلك، فلا يجب أن تستغرب حين يقف النّاس ضدّك، وحين يرفضون أن يتمّ تقسيم بلدهم بالفرض والقوّة والإكراه، ولا يحقّ لك أن تسأل حينذاك «لماذا الجميع ضدّي؟». هنا، وباختصار، لبّ المسألة ومن يتعامى عن هذه الحقيقة (وعن أنّ المشكلة في شمال العراق ليست كرديّة ــــ عربيّة فحسب، بل هناك تركمان وايزيديّون، وجزءٌ كبير من نسيج المنطقة التي تتعدد فيها القوميّات، يعارضون مشروع البرزاني ولا يريدون أن يجبروا على العيش في دولته وتحت رحمة عسكره)، فهو ينظم شعراً على حساب العراق.
من هنا من المستفزّ أن تجد بعضاً من «النخبويين» العرب، من غير العراقيين، يعبّرون عن «ليبراليتهم» على حساب العراق، ويعبّرون عن «حبّهم للكرد» عبر تأييد مشروع البرزاني في الانفصال، و»يتنازلون» عن الأراضي المحتلّة ويقدّمونها «هبةً» منهم، نيابة عن العراق والعراقيين. أصبح لدينا حقيقةً، في الثقافة العربية، جوقة خرابٍ فعليّة، يرتفع صوتها ــــ بالتّوازي ــــ في أوقاتٍ كهذه، ويتبنّون دائماً الموقف الأقرب إلى المؤسسة الغربية والصهيونيّة، و»يحبّون» شعباً حتّى يكاد ينقرض، ثمّ ينتقلون إلى القضيّة التالية. لماذا لا يكتبون شيئاً اليوم عن جنوب السودان (الذي أيّدوا انفصاله وابتهجوا به)؟ أين أصبح حبّ الشعب السوداني والانخراط في قضاياه؟ الطّريف هو أنّ هؤلاء، الذين يتبنّون لدى كلّ مفصلٍ موقفاً رومانسياً «معيارياً»، صمّمه الإعلام الغربي، على أنّه الموقف «الأخلاقي» قد انتهوا ــــ على أرض الواقع ــــ مدافعين عن حركات إبادية في سوريا، وميليشيات الناتو التي دمّرت ليبيا، وعن «حقّ» النخبة ــــ الأقلوية المتسلّطة ــــ بجنوب السّودان في نهب البلد منفردةً.
أمّا على المستوى السّياسي، فإنّ واقع ما يجري في العراق اليوم هو أنّ الاستفتاء يمثّل ــــ حرفيّاً ــــ حركة «صدّاميّة» من قبل مسعود البرزاني، هروبٌ إلى الأمام في وجه أزمة حكمٍ تواجهه، قرّر أن يحوّلها الى حربٍ ينخرط فيها شعبه بأكمله. المسألة واضحة وشفّافة لكلّ من يتابع السياسة العراقية، فعملية الاستفتاء لم تأتِ نتيجة أزمةٍ أو تراكمٍ أو تعنّتٍ عراقيّ يرفض التفاوض مع القادة الكرد أو يضطهدهم، بل لأن البرزاني كان في مأزقٍ سياسيّ وقد وصل إلى طريقٍ مسدود، وضعه أمام خيارين، أمّا أن ينتهي سياسياً، أو أن يصبح «أبا الاستقلال». أزمة الحكم في أربيل ليس مردّها فقط تآكل شرعية النّظام وتصاعد المعارضة ضدّ حكم الأسرة والفساد، بل أيضاً لأنّ حكومة كردستان فاشلة ومفلسة، وأسعار النّفط منخفضة، واحتياطات الطّاقة في المحافظات الثلاث ــــ التي كان يراهن عليها البرزاني كبديلٍ عن الدعم الحكومي ــــ تبيّن أنها أقلّ بكثيرٍ مما كان مقدّراً (والحكومة في أربيل قد عقدت صفقات «سيئة» مع الشركات التي تستخرج النفط والغاز، لا تنتج لها إلّا عوائد بسيطة). المشكلة بأكملها هي من افتعال مسعود البرزاني، وهو وحده مسؤولٌ عمّا سيحصل تالياً.
أن تهدم صرحك بيديك
عبر طرحه الاستفتاء، لم يكتفِ مسعود البرزاني بوضع شعبه في مواجهةٍ مستحيلة لا يمكن أن يخرج منها بمكاسب بل هو قضى، بضربةٍ واحدة، على كلّ نقاط القوّة لدى الحركة الكرديّة في العراق: دمّر التّحالف بينه وبين أنقرة، وهو كان المكسب الاستراتيجي الأساسي الذي عملت أميركا وإسرائيل ــــ بدأبٍ ــــ على تحقيقه على مدى أكثر من عقد، وكان الضمانة الأساسيّة للبرزاني وإقليم كردستان. وضع الإقليم في حالة حصارٍ وفي مواجهةٍ غير متكافئة (والبشمركة العراقية، حتّى لا يتوهّم أحدٌ، لا علاقة لها بمقاتلي الأغوار الكرد في القرن العشرين، بل هي ــــ كما وصفها عسكريون أميركيون بعد المواجهة مع «داعش» ــــ أصبحت تشبه أيّ جيشٍ عربيّ رسميّ، ولا أحد من بطانة البرزاني سيمتشق سلاحه ويهرب إلى الجبال ليقاتل). بل إنّه أعطى الحكومة العراقية حجّةً مؤاتية، وفي وقتٍ مثالي، لاستعادة المناطق التي كانت البشمركة قد احتلّتها بعد عام 2003، وهو ما كان شبه مستحيلٍ في الأوضاع «العادية»، فقدّمها البرزاني لهم على طبقٍ من ذهب.
المفارقة (والمأساوي) في الموضوع هو أنّ البرزاني لم يكن يحتاج إلى كلّ هذا، فالمناطق الكردية في حالة «استقلالٍ» فعليّ منذ عام 2003، وحكومة أربيل تمسك (بالقانون وخارج القانون) بكلّ مقتضيات السيادة، من المطارات والمنافذ الحدودية إلى الأمن والدفاع. في عالمٍ مثاليّ، كلّ ما كان على البرزاني فعله هو أن يستدعي سياسياً كرديّاً شابّاً وكفوءاً ويسلّمه مقاليد الحكم ويقول له: «نحن فعلنا وأوصلناكم إلى هنا، ولم تعد لديّ شرعية وقدرةٌ على الاستمرار، فعليكم أنتم أن تكملوا الطريق». هذا، بالطبع، مستحيلٌ بنيوياً في إمارة البرزاني وأسرته، ولهذا نحن نجد أنفسنا اليوم هنا.
في السرديات العنصرية فحسب (والتعميم العنصري يمكن أن يكون ايجابياً أو سلبياً)، يصبح «العرب» و»الكرد» شيئاً واحداً، ويصبح هناك ضحيةٌ دائمة وجلّادٌ دائم (كأن العراقيين الريفيين، الذين تمّ تهميشهم واضطهادهم كالكرد تماماً، لهم علاقة ــــ كونهم «عرباً» ــــ باضطهاد الحكومات للكرد، أو كأنّ حروب الحكومة العراقية ضدّ الحركة الكردية المعارضة لم يشارك فيها عشرات آلاف الكرد، إلى جانب الحكومة). في هذا السياق التبسيطي فقط تصبح سياسات البرزاني ومغامراته مساوية لإرادة الشعب الكردي، وهو ما يوازي تماماً أن تعتبر صدّام وسياساته تمثيلاً للعروبة وإرادة أمّتها. لا حاجة للتذكير، حين نتكلّم عن البرزاني، بأنّه قائدٌ توريثيّ رجعيّ، بنى سلطةً فاشلة وفاسدة وعنصريّة، وهو مسؤولٌ عن قتل آلاف الكرد في حروبٍ أهليّة، وصلت إلى تعامله الشهير مع صدّام حسين مباشرةً، وطلبه لدباباته في مواجهة خصومه المحليّين. من لديه أية أوهام حول «علمانية» أو «تقدميّة» مفترضة في أربيل، كما تروّج سلطة البرزاني لنفسها، فما عليه إلّا زيارتها، وليس حتّى الريف المحافظ والفقير والذي يزداد تشدداً. الأمر الوحيد الذي نجحت فيه «السلطة» في كردستان، منذ تأسيسها، كان في إقامة قوميّةٍ شعبوية على النّمط الغربي، وتنشئة جيلٍ كامل لا يعرف العربيّة ويكره أخوته العرب (وأكثرهم لا يتقن الانكليزية أيضاً، فتحصل على جيلٍ لا يمتلك، للقراءة والكتابة والإنتاج، أي لغة تواصلٍ عالمية).
إن كان الكرد قد تعرّضوا إلى التطهيرٍ والقتلٍ في العراق فإنّ باقي العراقيين، أيضاً، قد تعرّضوا إلى قتلٍ جماعيّ منذ أيّام الحصار (والذي استفادت منه سلطة البرزاني والطالباني، بحقارةٍ واستغلالية، وجمعت الأموال لبطانتها من التهريب والرسوم فيما الشعب العراقي يموت جوعاً)؛ وربع القرن الماضي هو أيضاً تاريخ. وإن كانت الحقوق القومية للكرد قد هُضمت، وتعرّضوا للعنصرية والفوقية، فإنّ الشّعب العراقي قد وقع تحت الاحتلال والغزو، ولم تتبقَّ مجموعةٌ دينية أو عرقية في الشرق الأوسط لم تسمع نداءات بقتلها جماعياً (على الفضائيات وفي الإعلام السائد)، ولم يقتل أهلها ويُذبحون على الهوية. السؤال ليس في بناء سردية مظلومية مريحة، بل هو عن ماذا نتعلّم من كلّ ذلك؟ والموضوع هو ليس في أن تكون «مع» أو «ضد» الاستفتاء، بل أن تفهم أسباب ما يجري حين يسيل الدّم، وتعرف من المسؤول.
خاتمة
حكومات العراق، بالمناسبة، لم تكن كلّها متشابهة في اضطهاد الكرد، بل كان لدى العديد منها (من عبد الكريم قاسم وصولاً إلى البعثيين)، استعدادٌ للتفاوض واعترافٌ ــــ رسمي وخطابي على الأقل ــــ بهوية الكرد القومية وحقوقهم، وصولاً إلى الموافقة على حكمٍ ذاتي في المناطق الكردية. صدّام حسين لم يمارس أسوأ سياسات العنف الجماعي ضدّ الكرد إلّا في الثمانينيّات، في عزّ مرحلته «الغربيّة»، وحين كان مطمئنّاً إلى دعم أميركا له وأنّها لن تعاديه أو تنتقده «من أجل الكرد»، وفي هذا درسٌ جوهريّ (تماماً مثلما أنّ واشنطن، اليوم، لن تتخلّى عن تركيا من أجل البرزاني). لا يمكننا أن نقرّر عن الكرد مصلحتهم، أو أن نقنعهم بعدم جدوى التماهي مع الغرب وأميركا ضدّ أبناء اقليمهم، ولكن في وسعنا أن نطلب منهم عدم سرقة أراضي غيرهم. هذا المزيج بين حركةٍ ترى نفسها ممثّلة للاستعمار الغربي في الشّرق، وبين ممارسة الاحتلال والاستيطان والتوسّع هو ــــ بحسب الباحث ستيفن غوانز ــــ الوصفة التي تكوّن الأيديولوجيا الصهيونية وأشباهها، مع فارق أن كردستان العراق ليست إسرائيل، ولا هي تملك علاقاتها وجيشها.
كتب شيخٌ إماراتي، مرحّباً بانفصال كردستان وداعياً إليه، أنّ هذه الدّولة ستكون «شوكةً في خاصرة إيران». بمعنى آخر، هم لا يرون العراق إلّا أرضاً مستباحة، بلا شعبٍ ولا «حق تقرير مصير»؛ وحدته أو تقسيمه مجرّد بيدقٍ في عداواتهم الخارجية. البشمركة تعامل أرض العراق اليوم على هذا النّحو تقريباً، أو تعتقد بأنّ «لحظة الضعف» تسمح بفرض معادلاتٍ تعاكس المنطق والتّاريخ. كأنّهم لم يروا شيئاً مما جرى في السنين الماضية. وإن كانوا يتخيّلون حقّاً بأنّ آلاف العراقيين الذين تقاطروا من أرجاء العراق وأقاصيه إلى نينوى والأنبار وصلاح الدين، وقاتلوا واستشهدوا دفاعاً عن وحدة البلد، سيسمحون للبرزاني بتقسيم وطنهم على هواه، فهم سيصطدمون بمفاجأةٍ قاسية ــــ ولن تنفعهم عندها إسرائيل.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/09/27