زيارة إلى البلاد التي تسأل ذاتها: هل أنت مصر؟!
طلال سلمان
عند باب الخروج من المطار الجديد إلى القاهرة التي كانت تبهرك فصارت تحزنك وهي تتمدد مع النيل عبر أريافها الصحراوية مقابل الأهرامات الثلاثة وأبي الهول، مع الالتفاف عبر المجمع الخامس في اتجاه جبل المقطم ثم التمدد دونه في اتجاه السويس، مستولدة مدناً جديدة وكثيرة، بعضها في أعلى الجبل “للخاصة”، وفي الطريق إليه “للعامة” أما بين بين فتتوسع الطبقة الوسطى لترفع عديد سكان العاصمة وضواحيها إلى ما يربو على ثلاثين مليونا.. قبل دخول الليل وانصراف المصريين إلى النوم مبكرين لتعزيز.. النسل المبارك.
أما بعد الاندفاع إلى الشارع طلباً للوصول إلى الفندق فيتمثل لك شاعرنا العظيم محمود درويش وهو يهتف بالمدينة التي بناها المعز لدين الله الفاطمي عند “الفسطاط” حيث نصب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب خيمته حين وصل بعد فتح مصر: هل أنت مصر؟!
لكن مصر اليوم مثقلة بهمومها مشغولة عنك وعن دورها العربي ووزنها الدولي، فسعر الدولار الأميركي ـ بعد تدخل متعدد من الدولة ـ استقر على 18 جنيهاً، في حين أنك زرت مصر، أول مرة في العام 1962، وسعر الجنيه 3 دولارات أميركية، وكل ما في مخازن القاهرة بضائع مصرية، والقطن المصري الأرفع مرتبة في العالم. ومن حول العاصمة وضواحيها ترتفع منارات الألف مصنع وهي تلبي احتياجات المصريين وقد استغنوا عن الاستيراد.
تتصفح الصحف المصرية فيصدمك مستواها وقد تراجع بحدة إلى مستوى صحف الهواة، بأخطائها النحوية والإملائية، قبل السياسة وبعدها.. تستمع إلى نشرات الأخبار التي تبثها محطات خاصة عدة، إضافة إلى المحطات الرسمية، فإذا لا أخبار، وإذا النبرة محايدة، بلا روح، تستوي في ذلك أخبار المذابح الإسرائيلية في فلسطين ضد أهلها ثواراً رجالاً ونساء وصبية وفتية بعمر الورد، او الاجتياح السعودي ـ الإماراتي المتوحش لليمن والذي يكاد يذهب بحضارة البلد العريق وشعبه بطل الفتح الإسلامي والأذكى والأفقر بين العرب قاطبة، او مشروع “الدولة الكردية” على حساب العراق في شماله والتي تنذر بأزمة خطيرة في المنطقة جميعاً بما فيها إيران وتركيا وسوريا إضافة إلى العراق قبل التدخل الدولي وبعده..
صفحات الصحف بيدر من الأخطاء في الإملاء كما في الصرف والنحو، إما السياسة فمتروكة لأصحابها و”الحياد” أفضل غطاء للخطأ.. والخطيئة!
كل الصفحات والنشرات الإخبارية (عدا أخبار “السيد الرئيس”) باردة، بلا روح، نتيجة غياب “الموقف”: حياد تجاه الحرب في سوريا وعليها، وأن كانت السياسة الرسمية قد حرصت على استمرار الاتصال مع دمشق، بهدوء، حتى لا تستفز السعودية وبعض الخليج فتندفع إلى معاقبة مصر..
بالمقابل، فإن العداء لإيران مستمر، بغير تفسير واضح أو تبرير مقنع..
أما مع السعودية والإمارات (خاصة) وسائر دول الخليج، ما عدا “العدو القطري” فالعلاقة دونية ويشعر معها المواطن المصري بالإهانة، إذ هدرت فيها وعبرها كرامة مصر ودورها، ولا يستطيع هذا المواطن أن “يبلع” المهانة التي رافقت طريقة تصرف أعرق دولة في العالم في قضية الجزيرتين: تيران والصنافير، إلى حرب اليمن، إلى التدخل من فوق رأس مصر في ليبيا، إلى اضمحلال دور الجامعة العربية، آخر موقع شبه مؤثر لمصر، عربيا، إلى انقلاب “الحكم الإسلامي” في السودان على مصر بعد “مصالحة” أميركا معه.
الخوف من الغد يظلل المصريين أكثر مما هو من الدولة وأجهزتها العديدة، وطموح النخبة من الشباب هو الهجرة إلى أي مكان، وقد زادت رغبة الأقباط خاصة في مغادرة مصر إلى أي دولة في أوروبا مع ارجحية دائمة للولايات المتحدة. ثم أن الخوف الأمني عند المصريين لم يعد يمنعهم من التساؤل عن حقيقة النفع من قناة السويس الثانية، وكذلك عن ضرورة العاصمة الأدارية التي يبنيها الجيش على طريق القاهرة ـ السويس، وقد دفع المصريون كلفة الجميع دونما اقتناع بجدواها الاقتصادية، في هذا الزمن المختلف عن عصر حفر القناة كوسيلة تواصل تجاري- صناعي- وعسكري استراتيجي بين الشرق والغرب.
أسوأ ما في الأمر: اختفاء “النكتة” في مصر، التي كانت الوسيلة الشعبية الممتازة للتعبير عن الموقف السياسي من الحكم، ومن الأزمة الاقتصادية أو من أحداث العالم..
الحكم مفرد، لا شريك له
النخبة تغادر إلى أي مكان، ولو إلى الصمت في قلب الإحساس بعبثية الكلام فضلاً عن الخوف من عواقبه..
لم تمت روح الفكاهة، بل هي ما تزال تستولد النكتة من قلب البؤس، لكن التورية هي الغالبة الآن، وأن كان الجميع يفهم المقصود..
المصريون يتزايدون حتى قاربت أعدادهم المائة مليون، لكن الدخل في تراجع دائم، يكفي أن سعر صرف الدولار قد ناهز ذات يوم العشرين جنيهاً، وبالتالي فان الدخل الفردي قد هوى نزولاً، وبات من الترف أن تدعو مجموعة من الأصدقاء إلى غداء أو عشاء ولو في مطعم شعبي..
الفقر يتعاظم بقدر ما يتعاظم عدد السكان..
ولا حلول جدية، ولا شركاء للحاكم الفرد المستغني بنفسه عن الآخرين كل الآخرين، والذي يضيق صدره بالنقد والذي يرى في نفسه ما لم يكنه جمال عبد الناصر، أو حتى محمد علي باشا وأبناءه وأشهرهم إبراهيم الذي هزم ذات يوم الوهابية واحتل مركز قيادتها في الدرعية..
أعاد الله مصر إلى مصر، حتى لا يظل شاعرنا العظيم محمود درويش يسأل ونسأل معه الجندي المصري العائد من حرب أكتوبر ضد إسرائيل: هل أنت مصر؟ هل أنت مصر؟!
كاتب عربي ورئيس تحرير وناشر صحيفة السفير
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/09/29