حرب التحريك في أكتوبر 1973هي لتدشين نظام البترودولار والنظام المالي الطُفيلي الجديد...
د. عبد الحي زلوم
في عام 1957 ، وفي عھد الرئیس دوایت ایزنھاور، تجاوز حجم الأموال الخارجة من الولایات المتحدة تلك الداخلة إلیھا لأول مرة منذ تطبیق اتفاقیة بریتون وودز . فقد وجدت البنوك الأمریكیة بأن الاستثمار في الخارج سیكون أجدى لها بكثیر من وضع أموالھا في مشاریع داخل الولایات المتحدة كما أن المؤسسات المتعددة الجنسیات بدأت الاستثمار وإقامة المنشآت الإنتاجیة في مواطن العمالة الرخیصة في أمریكا اللاتینیة وأوروبا وآسیا، مع الإبقاء على أرباحھا في الخارج. بعدھا جاء عامل الإنفاق العسكري الذي تضاعف بشكل أصبح یستنزف حصة كبیرة من الاقتصاد الأمریكي . أصبحت الولایات المتحدة بحاجة لأموال طائلة لتشغیل قواعدھا العسكریة في أنحاء العالم ، بالإضافة إلى الحرب في فیتنام التي تطلبت في مرحلة الذروة وجود 589 ألف جندي أمریكي هناك . یضاف إلیھم حوالي 600 ألف ینتشرون في قواعد حول العالم، ناهیك عن آلاف آخرین یجوبون بحار العالم على متن أكثر من 600سفینة حربیة تتكون منھا الأساطیل الأمریكیة العدیدة…فهؤلاء بحاجة إلى دولارات ، وهذه الدولارات تبقى خارج الولایات المتحدة.
في عام 1963 وصل لیندون جونسون إلى البیت الأبیض خلفًا لجون كیندي، وكان أول من لجأ إلى طباعة أوراق النقد الأمریكیة من دون تغطیة كافیة من الذهب المخزنة في Fort Knox حيث لم يكن للولايات المتحدة ما يكفي من الذهب لتلك التغطية.
في ھذا الوقت بدأت الشكوك تساور الرئیس الفرنسي شارلز دیغول ومستشاریه المالیین حیال الفجوة الجلیة بین حجم الدولارات المتداولة وما تمتلكه الولایات المتحدة من احتیاطات من الذهب ، ولما رفضت الولايات المتحدة الإفصاح عن مخزونها من الذهب الأمر الذي دفع فرنسا لانتهاج خط سیاسي واقتصادي أوروبي ینطوي على قدر من الاستقلال عن واشنطن فكان أن عمل مع المستشار الألماني كونراد ادیناور على التوصل إلى المعاهدة الفرانكو ألمانیة. مثل ھذا التطور عبر الأطلسي لم یرق لواشنطن، فكان أن مارست الضغوط على ألمانیا لإفشالھا. وبالفعل ، فقبل یومین فقط من التصویت على المعاهدة في البوندستك(البرلمان) الألماني عام 1963 تم طرح الثقة بالمستشار ادیناور الذي ترك منصبه ولم یكتب للمعاهدة أن تخرج إلى النور.
طلبت الحكومة الفرنسیة وأصر وزیر المالیة میشیل دیبري وقتھا على العودة إلى اتفاقیات بریتون وودز . كما كررت فرنسا طلبھا الخاص بتخفیض قیمة الدولار أمام الذهب. جاءت ردة الفعل الأمریكیة عنیفة هذه المرة، حیث شنت البنوك الأمریكیة والبریطانیة ھجمة مشتركة على الفرنك الفرنسي، متسببة في استنزاف %30 من احتیاطات الذهب الفرنسي قبل نهایة عام 1968 وتفجرت المظاهرات وأعمال العنف في الشوارع الفرنسیة وخلال عام واحد أصبح الجنرال دیغول خارج قصر الإلیزیه.
في أوائل السبعینات جاءت سلسلة من الأحداث الهامة كان أولھا أن أصبحت الولایات المتحدة عام 1970 مستوردة للنفط ، وفي العام التالي سجلت البلاد أول عجز في میزانھا التجاري. في العام المذكور كان حجم الدولارات الأمریكیة المتداولة في الأسواق العالمیة یقترب من 300 ملیار دولار ، بینما كان حجم احتیاط البلاد من الذهب لا یزید على 14 ملیار دولار بالسعر الرسمي الذي كان وقتھا 35 دولارًا للأونصة ، وذلك طبقًا للمعاییر التي وضعتھا اتفاقیة بریتون وودز عام 1944 . عندها أعلن نیكسون بتاریخ 15أغسطس 1971 بأن أمریكا قررت ، ومن جانب واحد ، إلغاء التزامھا بإتفاقية بریتون وودز وتعلیق خیار ربط الدولار بالذهب.
ما فعله نیكسون كان بدل تغطية الدولار بالذهب ليصبح تغطيته بالبترول وفرض العملة الأمریكیة على العالم كأمر واقع. كان هذا بمثابة انتقال من نظام السعر الثابت إلى السعر العائم الذي لا یستند إلى أي نظام سوى المصالح الأمیركیة .و كما اتضح لاحقاً كان القرار الأمریكي في نظر الكثیرین ممارسة لأكبر سرقة في التاريخ ! على سبيل المثال: لو كان لديك 350 دولار لكان لديك حسب اتفاقية بریتون وودز 10 اونصات من الذهب . عندما تمّ فك الارتباط مع تلك الاتفاقية وقفز الذهب إلى 350 دولار للاونصة أصبح ما لديك يساوي اونصة واحدة من الذهب. فمن الذي سرق منك ومن العالم 90% من مدخراته ؟ كذلك أصبحت قيمة الذهب في فورت ناكس 140 مليار دولار بدلاً من 14 مليار!
سبب قرار إلغاء سعر الصرف الثابت حسب بریتون وودز نشوء اقتصاد مالي طفيلي منفصلاً عن الاقتصاد المنتج وجعل من النقود مادةً للمضاربة كفيش الكازينو مما أطلق العنان لشارع المال وول ستريت لإيجاد وسائل مضاربة جديدة كالمشتقات والتي كانت سبب أساسياً في أزمة سنة 2008 والتي دفع ثمن تلك الأزمة المواطن الأمريكي البسيط لان الحكومة الأمريكية قامت بإنقاذ البنوك الفاسدة بأموال دافعي الضرائب من الشعب الأمريكي المتضرر من ممارسات وول ستريت وقذفت الأزمة بمئات آلاف المواطنين البسطاء إلى الشارع بعد تخلفهم عن الدفع لنفس تلك البنوك التي أوقعتهم في تلك الأزمة .
بدأ كیسنجر بتنشیط خططه الخاصة بالشرق الأوسط ، من خلال إعداد المسرح لحرب عربیة إسرائیلیة جدیدة حدد ھو نفسه معالمھا كخطوة تتلوھا رفع أسعار النفط بصورة فلكیة (بأربعة أضعاف)، وكان بطلا المسرحية الرئيس أنور السادات وكمال آدهم مدير المخابرات السعودية . وأخیرًا ولیس آخرًا تمّ فرض الدولار على العالم باعتباره العملة الوحیدة المستعملة لتجارة النفط . وھكذا أصبح لزاما على جميع الدول شراء الدولارات لدفع ثمن البترول .وماذا يعني هذا ؟ تم خلق أوضاع تملي إقبالاً عظیمًا على الدولار وبشكل إجباري ، بما یسمح لمطابع العملة الورقیة الأمریكیة بمواصلة العمل على طبع ما تشاء من الأوراق النقدیة طالما بقي النفط المصدر الرئیسي للطاقة في العالم. ومن أجل ھذا الأمر، كان التئام جمع لجنة بیلدربیرغ في مایو عام 1973والذي تم خلاله قرار رفع الأسعار 4 أضعاف قبل حرب أكتوبر بـ6 شهور. كما تمّ قرار كيفية إعادة تدوير البترودولارات من الدول المنتجة إلى بنوك الوول ستريت ولندن ، ولنعطي مثالاً: لو كان استهلاك العالم من البترول 90 مليون برميل من النفط باليوم وبسعر 100 دولار للبرميل هذا يعني إجبار العالم على شراء دولارات بمبلغ 9000000000) دولار باليوم) مغطاة في الأساس من النفط والاقتصاد القوي المفترض للولايات المتحدة . غیر أن مثل ھذا الاقتصاد یرزح حالیًا تحت وطأة دیون سجلت معدلات فلكیة، لدرجة أن العدید من المحللین الاقتصادیین فقدوا ثقتهم بقدرة الاقتصاد الأمریكي على الاستمرار . بحقيقة الأمر فإن تدوير البترودولارات من الدول المنتجة إلى الولايات المتحدة يتم عبر شراء سندات الخزينة الأمريكية أي بعبارة أخرى سداد عجوزات الولايات المتحدة ومبادلة الثروة الطبيعية الإستراتيجية أي النفط بأوراق كمبيالات مشكوك بإمكانيات تحصيلها وحتى ولو تم ذلك فسيكون الاستهلاك والغلاء قد أكل معظم قيمتها .
عندما تم رفع سعر البترول أربع أضعاف اضطرت الكثير من الدول النامية خصوصاً إلى الاستدانة من البنوك الأمريكية والبريطانية لدفع فاتورة النفط التي زادت 4 مرات ومن هنا بدأت مصائد الديون على الدول الفقيرة والنامية .
تشیر تقدیرات صندوق النقد الدولي إلى أن العجز المترتب على هذه الدول، بفعل النظام المالي الجدید ، ارتفع بمعدل %400 عام 1974 عما كان علیه قبل عام واحد فقط. فقد وجدت هذه الدول نفسھا أمام خیار وحید لتسدید فاتورتها النفطیة بالأسعار الفلكیة الجدیدة، وھو الاقتراض من البنوك الغربیة، وسرعان ما تحولت هذه القروض إلى عبء كبیر على اقتصادیاتھا الوطنیة.
وبعبارة أخرى ، فإن ما فعلته سیاسة كیسنجر كان إیقاع الدول النامیة في مصیدة الدیون التي أجبرت الدول الأفقر إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي على أمل تجنب تراكم الفوائد المستحقة من الدیون للبنوك الغربیة. غیر أن قروض الصندوق بدورھا لم تكن بأفضل من دیون البنوك بكثیر ، فقد جاءت مرتبطة بشروط جعلت من اقتصاد الدولة المقترضة أقرب إلى رهینة فعلیة لسیاسات الصندوق المعروفة وشروطها من تبني الدولة الضحیة لمبادئ التجارة الحرة، وفتح أسواقھا أمام الشركات ورجال المال والأعمال الأمریكیین. وفي ظل ھذا النوع من الشروط الضاغطة تصبح مصادر البلاد الطبیعیة إما تحت سیطرة أو التملك المباشر للمستثمرین الأجانب الذین یشترونھا بأسعار بخسة، وصولاً إلى أن تنتهي البلاد رهینة في أیدي المجموعة المالیة العالمیة.
كان مجموع الدیون طویلة الأجل على الدول النامیة عام 1970 حوالي 62 مليار دولار . زادت سبع مرّات فوصلت إلى 480 ملیار دولار سنة 1980 ثم زادت 32 مرّة لتصبح 2000 ملیار دولار سنة 1996 وهكذا دواليك. ولقد مكن ذلك البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة من إجبار تلك الدول على إعادة تشكیل اقتصادھا وقبول الشروط التي تتوافق مع مصالح أصحاب المال العالمي . وأصبح الاقتصاد العالمي موجھاً لعملیة تحصیل الدیون لما ینتج عن ذلك من زیادة في البطالة ، وتباطئ في النشاط الاقتصادي.
توصلت وزارة الخزانة الأمریكیة إلى اتفاق سري مع السعودیة ، الدولة الأكثر تلقیًا للدولارات النفطیة ، ینص على أكبر قدراً من استثمارات أموال النفط السعودیة في الولايات المتحدة خصوصاً على شراء سندات الخزانة. وفي منتصف السبعينات القرن الماضي استعان البنك المركز السعودي بمستشار استثماري أمریكي من الوول ستریت ھو “دیفید David Mulford والذي وجه البترودولارات السعودية إلى الولايات المتحدة حسب اتفاق سري بين وزارة الخزانة الأمريكية والسعودية .
وھكذا تحول البترول العربي من مادة إستراتیجیة ھامة إلى أوراق دولاریة لم تطأ أراضي العرب البتة ، بل بقیت أرقامًا في بیوت المال الغربیة تنتقل كرقم حسابي إلى رقم حسابي آخر .
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/10/03