تحوّلات في الجزيرة العربية؟
زياد حافظ
في سلسلة مقالات سابقة عرضنا ملامح التحوّلات السياسية على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي. من ضمن التحوّلات الممكنة إنْ لم تكن مرتقبة تحوّلات جذرية في الجزيرة العربية. فحكومة الرياض، على ما يبدو، بدأت مساراً جديداً على صعيد مواقفها السياسية. فمن ضمن التحوّلات في السياسة الخارجية لحكومة الرياض القبول، ولو على مضض، بانتخاب الرئيس اللبناني ميشال عون، والقبول أيضاً على مضض باتفاقات أستانة 6، والقبول على مضض ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد. صحيح أنّ الواقع الميداني في سورية والعراق واليمن فرض ذلك، ولكنه أيضاً جعل ممكناً فتح صفحة جديدة في العلاقات الإقليمية والدولية. فبعد التشبّث في ضرورة رحيل الرئيس السوري بشّار الأسد كمدخل إلى حلّ سياسي في الأزمة السورية انتهجت حكومة الرياض سياسة مختلفة، حيث لم تعُد تركّز على ذلك المطلب. وهذا تحوّل كبير بينما في الولايات المتحدة هناك مَن يستمرّ بالمطالبة برحيل الرئيس السوري كشرط للقبول بأيّ حلّ سياسي. فهل بدأ التباعد الفعلي بين الرياض وواشنطن؟
هناك مَنْ سيتحفّظ على ذلك الاستنتاج بناء على عامل واحد قد يكون في آخر المطاف عابراً، وليس جوهرياً. وهذا صحيح خاصة إذا ما تحقّقت الأنباء حول تصعيد الوضع ضدّ المقاومة وحزب الله في الساحة اللبنانية تحت شعار مَن ليس معنا فهو ضدّنا. ولكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تطوّرات أخرى في الجزيرة العربية، كما في مصر مثلاً نرى أنّ هناك شيئاً مختلفاً يبرز بشكل هادئ ومدروس. فموقع «المونيتور» الأميركي الذي يرصد الصحافة العربية والإقليمية على حدّ سواء، أشار إلى تحوّلات في مصر تجاه الإخوان المسلمين. بعد إعادة العلاقات مع حركة حماس هناك مبادرات من الحكومة المصرية كإخلاء سبيل عدد من المعتقلين من الإخوان المسلمين، حيث بادر العديد منهم بمراجعات سياسية وفكرية في آن واحد وأنه من الضروري التصالح مع الدولة في مصر.
قد يقول المرء وما علاقة ذلك بالجزيرة العربية؟ كشف الإعلامي جمال الخاشقجي عن انتسابه في السابق مع عدد من الوزراء والشخصيات من الجزيرة العربية إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولذلك دلالات عدّة. فمن جهة يظهر تعاطفه معهم رغم القرارات التي اتخذت بحقهم، ومن جهة أخرى يعلن معارضته لسياسات الحكومة. وهذا كان من المستحيلات في الماضي القريب. كما أنّ اعتقال عدد من المشايخ المعارضين لسياسات الحكومة قد تهدّد العلاقة بين الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية. فتطويع المؤسسة الدينية قد يكون أمراً صعباً لما له من تأثير على مجمع سكّان الجزيرة. كما أنه يمسّ في ركيزة البنية السياسية للنظام القائم، أيّ تحالف آل سعود مع المؤسسة الوهابية. فإذا تمّ المسّ بالتحالف التأسيسي فـ «شرعية» النظام القائم تصبح في مهبّ الريح إلى أن تقوم «شرعية» أخرى تحظى بموافقة سكّان الجزيرة. وهذه عملية قد تكون صعبة في المدى المنظور ولا نعلم مَن سيقودها؟ وكيف؟ وماذا سيُطرح كبديل؟ غير أنّ الموضوع أصبح في رأينا مطروحاً بشكل أو بآخر وبجدّية كاملة. فهذا هو أحد التحوّلات الممكنة.
أما على صعيد السياسات الخارجية، فهناك بوادر تغيير جذري في هيكلية التحالفات التي يمكنها أن تحمي المملكة. لاحظنا مثلاً العناق الطويل بين وزير خارجية حكومة الرياض ووزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران في أروقة اجتماع منظمة التعاون الإسلامي. فاللقاء الحار خارج عن المألوف في اللقاءات الدولية ولا ينسجم مع طبيعة الكلام القاسي السابق الصادر عن الدولتين المعنيتين. هنا أيضاً لا نريد أن نبني الكثير على هذا اللقاء. فحتى الساعة ما زال الخطاب الرسمي والسائد هو التهجّم على الجمهورية الإسلامية في إيران والارتكاز إلى التحالف مع الولايات المتحدة التي قد تؤمّن الحماية من أخطار وهمية. فمنذ القرن التاسع عشر كانت المملكة المتحدة حامية الأسرة التي في ما بعد حكمت الجزيرة. ففي عام 1945 عُقدت الصفقة أو التحالف التاريخي بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز مؤسّس الدولة الثانية للجزيرة باسم عائلته. كانت الصفقة/ التحالف مع الولايات المتحدة على متن المدمّرّة «كوينسي» على حساب المملكة المتحدة. جوهر هذه الصفقة هي أنّ الولايات المتحدة تؤمّن الحماية للأسرة الحاكمة بينما تؤمّن الأخيرة النفط للولايات المتحدة ولحلفائها. آنذاك كانت الولايات المتحدة القوّة العظمى المنتصرة والصاعدة بينما الإمبراطوريات الأوروبية أنهكتها الحروب وخاصة الحرب العالمية الثانية. فبعد عقد ونيّف من الزمن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقدت الإمبراطوريات الأوروبية معظم مستعمراتها في المنطقة وفي العالم. أما القوّة العظمى الأخرى، أيّ الاتحاد السوفياتي، فإنّ التباين العقائدي مع الجزيرة العربية جعلها غير صالحة للتحالف معها. والصين آنذاك كانت في معركة الانتقال إلى المنظومة الشيوعية ما جعلها أيضاً غير صالحة للتحالف معها من منطلق عقائدي.
والسؤال الذي يمكن طرحه اليوم هل تستطيع الولايات المتحدة تقديم «الحماية» مقابل «الخوّة» التي تدفعها الأسرة الحاكمة، وفقاً لنهج ترامب للعلاقة مع حكومة الرياض، والتي لها تداعيات سلبية على سكّان الجزيرة؟ وهل يمكن الوثوق بالولايات المتحدة وهي التي ساهمت في تأزيم الموقف بين دول مجلس التعاون بغية الابتزاز؟ وهل وقفت فعلاً إلى جانب حكومة الرياض في خلافها مع قطر؟ وهل هناك من بين النخب الحاكمة في حكومة الرياض مَن يصدّق أنّ الولايات المتحدة ستفي بوعودها، وهي التي تخلّت في أنحاء العالم كافة عن «حلفاء» موثوقين عندما قضت المصلحة الأميركية؟ وهل الذي تخلّى عن «الكنز الاستراتيجي»، أيّ الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، سيتمسّك بالأسرة الحاكمة؟ أسئلة كثيرة من السهل الإجابة عليها، إذا افترضنا أنّ النخب الحاكمة في الجزيرة العربية تمتلك الحدّ الأدنى من البصيرة. وما يعزّز ذلك هو سيل الانتقادات التي تُوجّه لحكومة الرياض في الكونغرس وفي مراكز الأبحاث وفي وسائل الإعلام المهيمن صاحب الرأي الواحد، وبطبيعة الحال في وسائل الإعلام البديلة. وهل وعود الرئيس الأميركي ستحمي الأسرة الحاكمة وحكومتها من تداعيات قانون «جاستا» الذي يحمّلها مسؤولية أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، وهو الذي يواجه صعوبات متزايدة في حماية رئاسته؟
وأسوة بالتساؤل حول جدوى التحالف مع الولايات المتحدة نطرح التساؤل حول جدوى التحالف مع الكيان الصهيوني. فهل تعتقد حكومة الرياض أنها ستكون بمنأى عن أطماع الكيان بثروات الجزيرة، إذا ما نجح مخطّط الكيان في تقسيم المنطقة وإضعاف العرب بشكل نهائي؟ وهل «الورقة الكردية» التي يستعملها الكيان ورقة رابحة فعلاً، كما تعتقد حكومة الرياض وحكومة اتحاد الإمارات؟ فالمساهمة المالية في تحضير الاستفتاء حول الانفصال الكردي عن العراق قد تكون له تداعيات وردّات كانفصال المنطقة الشرقية مثلاً أو منطقة عسير في الجزيرة العربية أو حتى منطقة الحجاز؟ فهل تعتقد حكومة الرياض أنها ستكون بمنأى عن هذه التطوّرات الممكنة؟
هذا، إذا اعتبرنا أنّ مستقبل الكيان مضمون، وهذا أمر يستدعي المناقشة، لأننا لا نرى مستقبلاً له في المنطقة، فماذا لو كان الأمر غير ذلك أيّ لا مستقبل له؟ هل تستطيع أن تجزم النخب الحاكمة في الرياض أنّ الوجود الصهيوني قدر على الأمة؟ وكيف تُفسّر تلك النخب الحاكمة عجز الكيان عن هزيمة كلّ من حزب الله والمقاومة في فلسطين بشكل عام وغزّة بشكل خاص؟ وهل تعتقد أنّ القتل والدمار هو «انتصار» إنْ لم يؤدّ إلى تغيير جذري في الخارطة السياسية؟ ويشمل هذا السؤال العدوان على اليمن، فهل قتل اليمنيين انتصار بينما تعجز الآلة العسكرية عن تحقيق أيّ إنجاز ميداني وبالتالي سياسي؟ وكذلك الأمر بالنسبة للكيان، فهل يستطيع الكيان ضمان نتائج مواجهة مقبلة مع المقاومة في لبنان؟ فلماذا إذاً التحالف أو حتى التطبيع مع مَن لا يستطيع درء الخطر عن نفسه؟ وبالمناسبة، إذا كان التفاهم مع الكيان يساعد حكومة الرياض في توثيق العلاقة مع الولايات المتحدة، فلماذا لم يساعد الكيان حكومة الرياض عبر شبكة علاقاته ونفوذه في الكونغرس الأميركي في منع تمرير قانون «جاستا»؟
إذا اعتقدت حكومة الرياض أنّ محوراً عربياً جزيرياً صهيونياً كردياً قد يشكّل توازناً معاكساً للتفاهم المتنامي بين الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا، فنلفت النظر إلى أنّ ذلك التفاهم، الذي قد يتحوّل إلى تحالف في مواجهة الانفصال الكردي وتداعياته، يُلغي فعلياً سردية التناحر السنّي المذهبي، الورقة الرابحة للكيان الصهيوني والولايات المتحدة وحكومتي الرياض وأبو ظبي. كما أنّ التواطؤ الأطلسي مع الانفصالية الكردية قد يدفع تركيا للخروج نهائياً من الحلف الأطلسي والالتحاق بمنظومة شانغهاي ومجموعة بريكس. فإذا حصل ذلك تخسر الولايات المتحدة ورقة أساسية في صراعها مع روسيا، ما يجعل النفوذ الأميركي في المنطقة مرّة أخرى هشّاً وغير فعّال. والنفوذ الأميركي المتراجع ينعكس سلباً على مَن يتحالف معه. والمحور الجزيري الصهيوني الكردي يصبح مكشوفاً أمام التحالفات الجديدة بما يهدّد أمن الخليج. في المقابل، فالتوازن مع المحور التركي الإيراني لن يستقيم إلاّ مع إقامة نظام عربي متماسك ومتكامل، ضلوعه سورية والعراق، مصر، والجزيرة العربية والجزائر وبعد إنهاء الحرب العبثية على اليمن.
وهناك سؤال آخر في سياق الورقة الكردية. أليس الدعم العلني الصهيوني للانفصال الكردي والتواطؤ الأطلسي معه هو لاستنزاف كلّ من تركيا وإيران والعراق وسورية؟ ولكن في المقابل، ما هي فرص نجاح الانفصال في بيئة إقليمية معادية لكيان جديد؟ فالورقة الإقليمية أو الجغرافيا معادية لذلك الكيان الجديد، لما يشكّل من خطر على الأمن القومي لكلّ هذه الدول. فهل تعتقد النخب الكردية ومَن يدعمها من دول الخليج أنها تستطيع اللعب على التناقضات لإضعاف هذه الدول؟ أليست المسألة الكردية مدخلاً لتفاهمات بل مصالحات لم تكن ممكنة في الماضي القريب وتعزّز محوراً جديداً قد يكون أكثر خطورة على الكيان الصهيوني ودول الخليج في ظلّ تراجع الولايات المتحدة ومحدودية القدرات الصهيونية على مواجهة محور المقاومة؟
في المقابل، ماذا يمنع حكومة الرياض من نسج تحالفات مع كلّ من روسيا والصين، الدول الصاعدة، والتي برهنت أنها تلتزم بوعودها وصادقة في التزاماتها وتحالفاتها؟ لقد قامت الأسرة الحاكمة في الجزيرة العربية في الماضي باستبدال الولايات المتحدة مكان المملكة المتحدة والظروف اليوم مؤاتية لاستبدال روسيا و/أو الصين بدلاً من الولايات المتحدة. وروسيا لم تعد تلك الدولة «الملحدة» بل تشاطر الغرب ودول الجزيرة العربية في تبنّيها لاقتصاد السوق وابتعدت عن التأميم كنهج اقتصادي سياسي. ومن سخرية القدر والتاريخ أنّ الاتحاد السوفياتي كان أول من اعترف بمملكة نجد والحجاز هكذا كانت تُعرف عام 1926، رغم أنها كانت تدور في فلك الغرب عبر علاقاتها المميّزة مع المملكة المتحدة. غير أنها قطعت علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي بعد عقد من الزمن واستمرّت القطيعة حتى 1991 عام تفكّك الاتحاد السوفياتي.
في هذا السياق تحمل زيارة خادم الحرمين إلى روسيا دلالات عدة. فهناك مصالح مشتركة تبدأ باستقرار سعر النفط والغاز واستثمارات متبادلة لم تكن موجودة في السابق، كما تشمل قضايا سياسية معقّدة كالحرب في سورية والعراق واليمن. ونأخذ بعين الاعتبار أنّ ولي العهد محمد بن سلمان يحرص على بناء علاقة متينة مع الاتحاد الروسي. من هنا قد تكون روسيا لاعباً أساسياً في نزع الفتيل بين حكومة الرياض وحكومة طهران. فإذا تمّ ذلك فإمكانية إقامة الممرّ من الشمال إلى الجنوب تتقاطع مع الممرّ الآسيوي الذي يربط بين بحر الصين وبحر المتوسط. ففي الحالتين تصبح طهران ممراً مفصلياً تستطيع حكومة الرياض الاستفادة منه. الدبلوماسية الروسية، خلافاً عن الدبلوماسية الغربية وخاصة البريطانية وربيبتها الأميركية، لا تحبّذ سياسة «فرّق تسد». بل العكس، فهي سياسية احتواء وتكامل ضمن قواعد الندّية والاحترام المتبادل. الدبلوماسية الغربية تزرع الفتن بينما الدبلوماسية الروسية ومعها الصينية تسعى إلى صنع التكتّلات والتعاون دون الوقوع في مطبّات التبعية.
ما يعزّز ذلك الاحتمال الإعلان عن صفقة بيع صواريخ «أس 400» الروسية لحكومة الرياض. هذه الصفقة، إذا ما تمّت فعلاً، تشكّل تحرّكاً تكتونياً تحرّك الصفائح التحتية في الأرض التي تفرز الجبال والبراكين والزلازل كبيراً وفقاً للعديد من المراقبين الدوليين. فدخول السلاح الروسي وما يرافقه من تدريبات يعني كسر الأحادية الغربية في تسليح المملكة كما يعكس السير في نهج جديد من علاقات عدم انحياز لم تكن موجودة في السابق. والقلق الأميركي من تلك الصفقة واضح، حيث أسرعت إدارة ترامب على إعلان عن صفقة بيع منظومة صواريخ مضادة للصواريخ منظومة «ثاد» بقيمة 15 مليار دولار كجزء من صفقة الـ 110 مليارات دولار للتسليح.
كما نعتقد أنّ الدبلوماسية الروسية قد تكون مساعدة وفعّالة في إنهاء النزيف في اليمن. تكامل الدبلوماسية الروسية مع الدبلوماسية المصرية ركن للوصول إلى حلّ سياسي في اليمن. ومن هنا نرى أنّ تحوّل حكومة الرياض إلى موسكو قد يساعد الأسرة الحاكمة على تثبيت موقعها بينما الاستمرار بالتحالف مع الولايات المتحدة سيستمرّ في جلب الويلات التفتيتية للجزيرة وللمنطقة.
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2017/10/12