حفيد رئيس الوزراء ينكّل بنائب برلماني منتخب
جواد فيروز
بلغت عمليات الاعتقال أكثر من 12 ألف حالة منها 4 آلاف في السجون الآن
عندما تقدمت بأوراق ترشحي لأول انتخابات تشهدها البلاد في عام 2002، بعد تعليق العمل بالدستور لأكثر من 20 عاماً، لم أكن أتوقع أن عشر سنين ستكون كافية لتنقلب السلطة في البحرين على المواطنين مجدداً، وأتحول مع آلاف من المواطنين وقادة المعارضة وعدد كبير من الأطباء والمعلمين ورجال أعمال وأصحاب مهن مختلفة إلى سجناء سياسيين!
يمكن للخيال أن يسرح بك بعيداً في رسم صورة لبلد شرق أوسطي يدّعي تقدمه في مسارات الديموقراطية وانتهاج مبدأ التسامح، غير أنه لن يصل بك إلى أن يتحول نائب برلماني وبلدي منتخب لعشر سنوات متتالية إلى ضحية يتفنّن في تعذيبه صبي عشريني هو حفيد رئيس وزراء البحرين، خليفة بن سلمان آل خليفة... ولكن هذا هو ما حصل بالتحديد!
في مايو/ أيار 2011، داخل جهاز الأمن الوطني إبان اعتقالي، كان الضابط المسؤول يذكّرني بمذكرة الاحتجاج البرلمانية التي رفعتها إلى وزير الداخلية في عام 2007، واعتصامي أمام مبناه لطلب الإفراج عن فريق جمعية «الوفاق» الإعلامي بعد تعرض أفراده للتعذيب. يقول لي الضابط متهكماً: لقد أصبحت الآن بين أيدينا داخل المبنى... إن كنت تسأل ماذا نمارس؟ فستشهد بنفسك وعلى جسدك إجابات أسئلتك.
رغم تمتعي بالحصانة النيابية منتخَباً من قبل 15 ألف ناخب، اعتقلت دون إذن قضائي على يد ثلاثة ملثمين اقتادوني معصوب العينين للتحقيق في جهاز المخابرات العسكرية في مبنى القيادة العامة الكائن في منطقة الرفاع. في ثاني أيام الاعتقال والتحقيق، أودعت في زنزانة انفرادية، حيث مُنعت من الجلوس، وطُلب مني إلصاق وجهي بصورة ملك البحرين، حمد بن عيسى، المعلّقة داخل الزنزانة، وتقبيلها بشكل مستمر ولمدة طويلة. مجرد التعب والتوقف عن ذلك كان كافياً للتعرض للضرب والتنكيل على يد حارس الزنزانة.
لاحقاً، جيء بكلب شرس للانقضاض عليّ. ولمدة نصف ساعة، كنت عرضة لنباحه ومحاولات هجومه واقفاً معصوب العينين في زنزانة لا يزيد طولها على متر ونصف متر، وعرضها لا يزيد على نصف متر. بعدها مباشرة، سمعت صراخ سجين يعلو من الممر، أصوات الضرب المكتومة على جسده أشعلت القشعريرة في جسدي، بينما يخفت صوته مع استمرار الضرب، حتى هدأ تماماً. كان على حارس السجن أن يبلغني الرسالة: قتلناه... وهذا سيكون مصيرك إن لم تتعاون معنا. كنت أُمَنّي نفسي بأنني أتعرض للإيهام بغرض الترهيب، حيث استمر تكرار هذه العملية طيلة يوم بأكمله، نُقلت بعدها مباشرة إلى جهاز الأمن الوطني.
لم أشعر طيلة فترة تعذيبي بأن الجلادين يسعون إلى استنطاقي بمعلومة معينة، كان الهدف المجرد هو إذلالي... كنت محظوظاً لأنني لم أتعرض لما تعرض له زملائي في السجن، الذين أُجبروا على البصق في فم زملائهم، أو تقليد أصوات الحيوانات، أو ممارسات أخرى مهينة وحاطة بالكرامة البشرية. لكنني رغم كبر سني، حيث كنت أبلغ يومها 50 عاماً، تم إجبارنا ضمن مجموعة من المعتقلين على التحرك في طابور واضعين أيادينا على أكتاف بعضنا البعض، وإصدار صوت القطار، وإرغامنا على الاستهزاء من بعضنا البعض. كمّ الإهانة والحط من الكرامة الإنسانية كان يحرق قلبي، لمعرفتي أن إهانة نائب برلماني تعني إهانة كل ناخبيه، وإذا كنت أتعرض لهذا رغم كوني شخصية معروفة، كان مجرد التفكير في ما يتعرض له بقية السجناء كفيلاً بسلبي القدرة على الهدوء أو النوم.
كانت مرحلة عرضي على النيابة العسكرية، بتاريخ 18 مايو 2011، أقسى تجربة تعذيب أتعرض لها. كنت أُجبَر على الوقوف في الشمس لفترة طويلة، أُضرَب خلالها وبعدها بالهراوات، قبل أن يتم نقلي في كل مرة إلى مكتب النائب العام العسكري. وهناك، كنت أُضرَب بشكل مبرح في غرفة مجاورة لمكتبه. لا أعرف كيف كان يتقبل عضو في جهاز قضائي سماع صراخي أتلوّى على باب مكتبه، ثم يعود للتحقيق معي لأكثر من 10 ساعات، اشتكيت له ذلك... لكن وجبة الضرب عادت على أعتاب مكتبه مجدداً.
بعد الانتهاء من التحقيق في النيابة العسكرية، وفي طريق رجوعي إلى سجن جهاز الأمن الوطني في المنامة، تم أخذي مع عدد من المعتقلين، ومنهم علماء دين معروفون، إلى سجن قرين ــ وهو سجن تابع لقوة دفاع البحرين ــ حيث تعرضت لوجبة أخرى من التعذيب الشديد من الضرب بالهراوات والركل بالأحذية العسكرية. وهنا، قام حفيد رئيس وزراء البحرين بتهديدي بالسلاح والتلويح بالصعق بالأجهزة الكهربائية، وتعمد أحد حراسه لفظ كلمات نابية ضدي والقيام بتحرشات جنسية!
كان من الطبيعي أن أتوجه بعد الإفراج عني إلى العمل الحقوقي، ومتابعة شؤون المعتقلين، حيث بلغ مجموع عمليات الاعتقال أكثر من 12 ألف حالة، منها 4000 حالة تمكث في السجون الآن بتهم مختلفة، غالبيتها ذات صلة بحرية التعبير السلمي عن الرأي. نشاطي في متابعة هذه القضايا والدفاع عن حقوق المواطنين ومحاولة خلق بيئة عمل إنساني صحية داخل البحرين كان كفيلاً بصدور مرسوم من الملك بإسقاط جنسيتي في 7 نوفمبر 2012. هذا التعدي على كرامتي الوطنية والإهانة هو ألم آخر يوازي في عمقه ما تعرضت له من تعذيب داخل المعتقلات.
لم أشعر طوال السنوات الماضية بإلحاح أزمة وطنية كما أشعر بإلحاح إيقاف تعديات أفراد السلطة الحاكمة على أبناء الوطن في السجون والمعتقلات ومكاتب التحقيق التي تحولت إلى غرف للموت تُنتهك فيها الكرامة الآدمية. ولقد وثقنا العديد من شهادات الضحايا في تقرير خاص بعنوان «غرف الموت»، خصصناه فقط لضحايا جهاز الأمن الوطني الذي أُطلقت يده ضد عموم النشطاء في البحرين بغطاء من ديوان الملك.
غير أن الانتهاكات بحق السجناء والمعتقلين، والتي رصدناها، تتعدى التعذيب المباشر إلى الحرمان من العلاج، حيث يعاني عدد من المسجونين على ذمة قضايا ذات خلفية سياسية من القتل البطيء بحرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية كالعلاج من العاهات والإصابات الناجمة عن التعذيب والرصاص، أو الأمراض المزمنة والمستعصية التي يعانون منها. وهو ما يجعلنا في قلق انتظار المزيد من جثث الضحايا، في وقت تُعلن فيه بروباغندا السلطة في البحرين عن حملات علاقات عامة بعنوان التسامح والمحبة والديموقراطية، وبينما يُمنع المفوض السامي لحقوق الإنسان من ممارسة صلاحياته اللازمة لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، ولا تُمنح فرصة للمقررين الخاصين لزيارة البحرين والالتقاء بالضحايا والوقوف على وضع مؤسسات المملكة المعنية منذ عام 2006.
إن الوضع الإنساني الملح للسجناء يكسب أهميته من طبيعته الإنسانية البحتة، رغم أن تحول مملكة البحرين إلى البلد العربي الأكبر لجهة كثافة السجناء قياساً إلى عدد السكان هو مؤشر جدي على استمرار الأزمة السياسية وحجمها. وبعد سبع سنين من فرض هذه الوتيرة القاسية من الخيارات الأمنية، أعتقد أنها فشلت في إقناع المواطنين بعدم أهمية الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وإعادة الاعتبار للمؤسسات الدستورية وإصلاح القضاء والأجهزة الأمنية، بل جعلتها أكثر إلحاحاً باعتبارها حاجة وطنية.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/10/29