«ليلة السكاكين الطويلة» في الرياض
علي الصالح
نحن مع التغيير والتحديث والتجديد في الدول العربية، ونحن ضد الفساد المستشري والمحسوبية ومع اقتلاعهما من جذورهما، نحن ضد كل ذلك، ولكن «المجزرة» السياسية والاقتصادية التي شهدتها السعودية السبت الماضي، وقد تستمر تبعاتها لشهرا وربما لسنوات مقبلة، فأغراضها وأهدافها أبعد، وتتجاوز حدود التحديث، إنها حق أراد بها صاحبها باطلا.
كيف يمكن لمسؤول لم يتجاوز الـ32 عاما من العمر وهو نفسه ملياردير، رغم أنه ليس معروفا بين رجال الأعمال أو الأثرياء في العالم، أن يؤتمن على رئاسة لجنة عليا لمحاربة الفساد، ذات الصلاحيات الواسعة جدا، وينفذ في ليلة تعيينه نفسها، عمليات اعتقال أمراء من عائلته نفسها بتهمة الفساد، وهو الأمير ذاته الذي اشترى يختا فارها وقع بغرامه من النظرة الأولى، عندما رأه راسيا في مياه موناكو، بتكلفة تزيد عن نصف مليار يورو، فهل يعقل ذلك؟ أنا هنا لست في صدد الدفاع عن أي من هؤلاء، فربما تكون التهم الموجهة إليهم صحيحة مئة في المئة، وقد تكون في بعضها غير صحيحة.
أكثر من عشرة أمراء وتحديدا أحد عشر أميرا على الأقل من الأسرة الحاكمة، وأربعة وزراء حاليين ومئات الوزراء والمسؤولين السابقين، اعتقلوا ليل السبت/ الأحد في ما أصبح يوصف بـ«ليلة السكاكين الطويلة»، ووضعوا في فندق ريتز- كارلتون في الرياض ذي النجوم الخمسة، بتهم فساد وغسيل أموال ورشوة وابتزاز الخ، وجمدت حساباتهم وأرصدتهم المصرفية التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات. ويشاع أن عناصر من شركة بلاكووتر الأمنية الأمريكية ذات الصيت السيئ في العراق، هم من نفذوا عمليات الاعتقال.
نحن هنا لا نتحدث عن أمراء من الصف الثاني أو الثالث، بل عن أمراء كبار ذوي ثقل سياسي وعسكري واقتصادي، من أمثال رجل الأعمال الأمير الوليد بن طلال، وهو من أغنى أغنياء العالم واستثماراته في كل أنحاء العالم، وهو ابن الأمير طلال الداعي للإصلاح وتطبيق نظام الملكية الدستورية منذ عقود، والأمير متعب ابن الملك الراحل عبد الله ورئيس الحرس الوطني، الجيش الموازي للجيش العام، وشقيقه الأمير تركي بن عبد الله أمير منطقة الرياض، إضافة إلى رجلي الأعمال محمد العمودي وبكر بن لادن وغيرهم. ومما يثير الشكوك حول النوايا أن أيا من أبناء الملك سلمان لم تشملهم هذه الاعتقالات على الأقل ظاهريا.
و»ليلة السكاكين الطويلة» هو مصطلح أطلق على حملة التطهير التي بدأها النازيون في ألمانيا، في 30 حزيران/ يونيو وحتى الثاني من تموز/ يوليو عام 1934، ونُفذت خلالها إعدامات، تعزيزا لقبضة هتلر على الحكم. وممن طالتهم الإعدامات قادة المنظمة البرلمانية للحزب النازي «أس أيه» أو من كانوا يعرفون بذوي «القمصان البنية».
وكان هدف حملة الإعدامات النازية التي طالت العشرات، إن لم يكن المئات، كما حملة الاعتقالات وتجميد الأرصدة «السلمانية»، هو تحسين صورة حكومة هتلر أمام الرأي العام الألماني، الذي بدأت انتقاداته لذوي «القمصان البنية» تتصاعد، وتحرك هتلر ضد «أس أيه» وقائدها لأنه رأى فيهم خطرا كامنا على سلطته.
وفي السعودية نفذت عمليات الاعتقال بأوامر مباشرة من ولي العهد محمد بن سلمان، بعد ساعات معدودة، من المرسوم الملكي الذي أصدره والده الملك سلمان بتعيينه رئيسا للجنة العليا لمكافحة الفساد، التي شكلت خصيصا لهذا الغرض وبصلاحيات مطلقة.
وإضافة إلى حملة الاعتقالات أصدر بن سلمان أمرا بمنع الطائرات الخاصة والملكية من الإقلاع ومغادرة أجواء المملكة. وتزامن ذلك مع سقوط طائرة مروحية تقل الأمير منصور بن مقرن نائب أمير منطقة عسير وعدد من المسؤولين، وهناك من يربط بين سقوط الطائرة ومقتل الأمير منصور وبين الأحداث المتسارعة.
جاءت هذه «المجزرة السياسية» كمرحلة ثانية من مراحل بسط بن سلمان سلطته المطلقة على كل مفاصل الحكم، ليصبح الآمر الناهي وصاحب القرار الأوحد والحاكم بأمره في الشؤون العسكرية والأمنية والخارجية والاقتصاد والسياسات الاجتماعية.
وتعود البداية إلى تخلص بن سلمان من العقبة الرئيسية الأولى في طريق وصوله إلى الحكم المطلق، عقبة ولي العهد محمد بن نايف، الذي أزاحه بتهمة تعاطي المخدرات، لتفتح الأبواب على مصراعيها.
وبعد الإطاحة بابن عمه تقلد كل مفاتيح الحكم وإدارة شؤون البلاد، ومنحه والده كل الصلاحيات والألقاب من وزير دفاع إلى ولي العهد ونائب رئيس الوزراء الخ، باستثناء لقب خادم الحرمين الشريفين، الذي آثر والده الاحتفاظ به لنفسه إلى أن يسترد الله وديعته، أو يقرر الملك التنحي عن منصبه.
هذه الخطوات ما كانت لتمر بدون راع وداعم وسند قوي. وجاء هذا الدعم حسب تقرير نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي عبّر عن تأييده لهذه الخطوات في مكالمة هاتفية أجراها مع الملك سلمان عشية «ليلة السكاكين الطويلة». وربطت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية بين توقيت «المجزرة السياسية» والزيارة السرية إلى السعودية التي قام بها في الشهر الماضي، جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب. وأشارت الصحيفة إلى أن كوشنر وبن سلمان عقدا جولات مطولة من المحادثات المعمقة استمرت ليالي عدة، وكانت تتواصل حتى ساعات الفجر الأولى يضعان خلالها الخطط والسيناريوهات. وهذا الدعم لم يأت طبعا من دون أثمان غالية.. والأثمان تأتي بأشكال مختلفة لصالح أمريكا عموما والرئيس ترامب خصوصا وطبعا إسرائيل، إذ كل المصالح الأمريكية تصب في المصلحة الإسرائيلية.
الثمن الأول جاء ما يفسره في تغريدة للرئيس ترامب قال فيها، إنه يريد إدراج شركة أرامكو النفطية في بورصة نيويورك. وإنه أثار هذه القضية خلال المحادثة الهاتفية مع الملك سلمان عشية «المجزرة السياسية».
والفائدة الثانية تخص ترامب وهي الانتقام من الأمير الوليد بن طلال. وتُذكّر وسائل الإعلام الأمريكية بالمشادة «التويترية» بينهما في ديسمبر 2015 خلال الانتخابات الرئاسية، فقد دعا الوليد ترامب للانسحاب من سباق الرئاسة لأنه «عارٌ على أمريكا وكل الأمريكيين»، فردّ عليه المرشح الجمهوري وقتها بتغريدة اتهمه فيها بشراء السياسيين في أمريكا بأمواله، وأكد أنه لن يسمح له بالقيام بذلك عندما يُنتخب رئيساً.
الثمن الثالث ضمان السيطرة الأمريكية على السعودية وثرواتها، وضمان ولاء الملك الشاب لسنوات عديدة في حال بقي في الحكم وهذا غير مضمون. والثمن الرابع وهو الأهم والأخطر وهي الفائدة الإسرائيلية، إذ يحاول ترامب عبر مبعوثيه للسلام المؤيدين لإسرائيل صهره كوشنر وغيسون غرينبلات، التسويق لما يسمى «صفقة القرن» التي سيكون الخاسر الوحيد فيها، إذا ما طبقت على المدى القصير، الفلسطينيين وقضيتهم، إذا ما افترضنا جدلا أن هذه الصفقة ستمر بسلاسة.. طبعا هذا غير وارد، فكما قلنا مرارا وتكرارا فإن الشعب الفلسطيني لن يقبل تجاوزه ولن يقبل بالضيم ولن يسقط حقه مهما كانت القوى الضاغطة، وسيكون قادرا على إحباط أي مؤامرة عليه وعلى حقوقه والتاريخ يتحدث عن نفسه.
وحسب تقارير إسرائيلية، غير مؤكدة، فهناك توجه سعودي قوي يقوده بن سلمان، للضغط على الفلسطينيين للقبول بهذه «الصفقة» التي تنتقص من الكثير من حقوقهم، وفي مقدمتها قضية اللاجئين وحدود الدولة، وذلك لتمهيد الطريق أمام التقارب الذي يسعى إليه بن سلمان بقوة مع الإسرائيليين، في سياق المواجهة مع إيران في لبنان، الذي يتهمه السعوديون بإعلان الحرب عليهم. مواجهة سيكون وقودها إن وقعت لبنان الوطن والشعب والفلسطينيين كذلك. ويسعى بن سلمان بشكل مباشر أو غير مباشر لإقناع حكومة الاحتلال بخوض هذه الحرب على حساب الشعب الفلسطيني.
واختتم بالقول إنني أتوقع ما يمكن أن يفعله أي شخص، بمن فيهم بن سلمان للوصول إلى السلطة المطلقة، ولا أجد غرابة في ما يمكن أن يقدم عليه لتحقيق مآربه، لكن الأغرب أن يرى البعض وهم من المعدودين على المثقفين، وبصدق ومن دون أي مصلحة شخصية، في «المجزرة السياسية» التي يرتكبها بن سلمان خطوة في الاتجاه الصحيح، وقد تسفر عن التغيير الذي يتطلعون إليه في السعودية.. وهذا يعكس مدى اليأس والإحباط اللذين وصلنا إليهما.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/11/12