كيف ستتجاوز السعودية واقعة احتجاز الحريري؟
توفيق رباحي
ما يحدث لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري محزن وخطير، لكنه طريف إلى درجة تجعله جديرا بالحفظ في أرشيف التاريخ ليتسلى به دارسو السياسة والباحثون في العلاقات الدولية خلال العقود المقبلة. سيقولون: دولة مستقلة اسمها السعودية احتجزت رئيس وزراء دولة مستقلة اسمها لبنان وأجبرته على الاستقالة ضمن تكتيك في حرب استنزاف كانت تخوضها ضد دولة مستقلة ثالثة اسمها إيران. سيشددون على أن هذا حدث في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، وعلى أن رئيس الوزراء المحتجز كان سُنِّيا، أي في صف السعودية وحليفها، بينما كانت حربها مع دولة شيعية هي عدوها الطائفي والاستراتيجي.
وسيذكّرون كذلك بأن سكان هذه المنطقة تندّروا بأن الفلسطينيين وضعوا أيديهم على قلوبهم خوفا من أن يلقى رئيسهم، محمود عباس، المصير نفسه أثناء زيارته للرياض في الأسبوع نفسه، ويصبح ثالث اثنين، الحريري والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي.
وسيذكرون كذلك أن سكان المنطقة تندّروا بأن الفرنسيين تبادلوا التهاني على عودة رئيسهم، إيمانويل ماكرون، سالما من زيارة خاطفة إلى الرياض قادما إليها من أبوظبي في الأسبوع ذاته. وسيذكرون أيضا انه بعد أكثر من أسبوع من الضغط واللغط، وافقت السعودية للرهينة على إجراء مقابلة مع محطة تلفزيونية تملكها عائلته، ليبدو مثل معتقل يدلي باعترافات في مخفر شرطة.
لكن في جوهر الموضوع يجدر التساؤل: هل فعلا الحريري هو المحتجز؟ نظريا، نعم. عمليا، لا. الحريري اليوم بالأحرى ضحية مقابلته التلفزيونية ودفاعه خلالها عن السعودية، وإن بلا جدوى، لأنها بدّدت كثيرا من التعاطف الذي راكمه في لبنان والخارج جراء تلك الاستقالة الغامضة. أما في الواقع فالسعودية هي التي في ورطة، مهما حاول الحريري تبرئتها، وهي التي تبحث عن مخرج مشرف لها. والأهم مخرج سريع، فكل ما طال الوقت ضاق الخناق أكثر من حول عنق أصحاب قرار «إبقاء» الحريري في الرياض. ذلك أن دائرة الغاضبين والمطالبين بالإفراج عن الحريري ـ أو معرفة حقيقة ما جرى معه على الأقل ـ ستتسع أكثر.
ولا غرابة أن كانت البداية من الرئيس ميشيل عون الذي صبَرَ ستة أيام ثم بدأ خطابه، الهادئ والمتحفظ في البداية، يصبح أكثر جرأة. ثم قادة تيار المستقبل الذين استعادوا توازنهم بعد الصدمة الأولى، وبدأ موقفهم من الأزمة يتحوّل أكثر إلحاحا وأقل استسلاما للسعودية. لقد حملت تصريحات قادة تيار المستقبل ـ فؤاد السنيورة ووزير الداخلية نهاد المشنوق على الأقل ـ شعورا بالإهانة وبالرغبة ـ من السعودية ـ في دوس كرامة اللبنانيين عموما والتيار خصوصا، بالذات مع تواتر أنباء عن استدعاء مسؤولين سعوديين آل الحريري إلى الرياض لتقديم «البيعة» إلى بهاء الحريري خلفا لسعد.
هناك قدر هائل من التنمر السعودي على لبنان في هذه السابقة. لكنه تنمر من النوع الذي يأتي بنتائج عكس المأمول منه، ففي الحالة التي أمامنا، السعودية هي التي فقدت جزءا من احترامها أمام الرأي العام الدولي والإقليمي، وليس لبنان. لبنان سلّم منذ البداية بأنه دولة صغيرة وهشة مجبرة على الحفاظ على التوازنات لتواصل البقاء، بينما سوّقت السعودية لنفسها صورة راعية مصالح المسلمين والعرب والدولة ذات الوزن الإقليمي والدولي التي لا يتقرر شيء من دونها، واشترى الناس طويلا هذه البضاعة.
فوق فقدان الاحترام، ستفقد السعودية لبنان الذي كانت لها يد فيه شريكة في الحكم. لكن بعد فقدان الحريري وتيار المستقبل (يصعب أن تعود علاقة الحريري بالسعوديين كما كانت قبل هذه الواقعة)، لن تجد السعودية موطئ قدم. ومع انتهاء مسلسل الحريري، سينتهي التأثير السعودي في السياسة بلبنان ليضاف هذا البلد إلى قائمة هزائم السعودية وحماقاتها. في المقابل ستُشَّرع الأبواب على مصراعيها لإيران.
دوليا، لا يوجد ما يوحي بأن السعودية ستتجاوز واقعة الحريري بسرعة. صحيح أنها، بفضل ما لديها من أموال، اشترت صمت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعائلته، لكنها لم تضمن شراء صمت الولايات المتحدة ومؤسسات الدولة فيها. حتى ترامب ذاته ليس مضمونا إلى الأبد، لأنه يغرد لمن يدفع أكثر وأسرع. ويحدث أن الذي يدفع اليوم اسمه السعودية. غدا قد يكون آخر.
كما أن شراءها صمت وصبر الحكومات الغربية، من باريس إلى أوتاوا مرورا ببرلين ولندن، لا يمنحها بوليصة أمان بأن الصمت سيكون أزليا. فهناك الوجه الآخر للعملة والمتمثل في أن للحريري أصدقاء ومتعاطفين في الحكومات والأوساط السياسية في الغرب. تعاطفٌ مع الشخص بحكم العائلة التي ينتمي إليها، ومع الرجل باعتباره رئيس وزراء دولة تلقى اهتماما غربيا خاصا بحكم تركيبتها السياسية والطائفية، ولا يوجد في الغرب من يحبذ انهيارها أو عودتها إلى مربع الحروب الداخلية. مقابلة الحريري مع تلفزيون «المستقبل» ليلة الأحد لم تبدد الشكوك. لقد كانت فرصة للطرفين، الحريري والسعودية، للنزول من أعلى الشجرة، ومحاولة لتفنيد فرضية أن السعودية رهينة الحريري وهذا رهينة نفسه.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/11/14