نصرة القدس والقرارات المهينة
طلال سلمان
على قاعدة “وفيت قسِطكَ للعُلى فنمِ..”، عاد ارهاط الحكام العرب من اجتماع نصرة القدس بالاعتراض على قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب بنقل سفارته من تل ابيب اليها، وهم يستذكرون نشيد نجدتهم القديم: “يا فلسطين جينالك…جينا وجينا جينالك.. جينالك لنشيل احمالك”!
لم ينتبه اصحاب الجلالة والفخامة والسمو، إلى أن دولاً عدة قد سارعت بعد ذلك التصويت المبين، إلى اتخاذ قرار مضاد بنقل مقار سفاراتها من تل ابيب إلى القدس الشريف، في خطوة لا تعني تحقير القرار الأممي وتجاوزه بالتحدي فحسب، بل بالتوكيد على أن واشنطن (التي تحتوي اسرائيل وتحميها وتنصرها على العالمين) لم تتوقف لحظة امام القرار الدولي.. بل أنها قد أوعزت إلى بعض الدول التابعة بأن تمضي في تحدي “الارادة الدولية” حتى النهاية، فما قيمة هذه الارادة إن لم تكون واشنطن منطلقها وسندها ومرجعها الأخير؟!
ماذا في الأمر من جديد؟!
إن خزائن الامم المتحدة وملفاتها تحتوي على عشرات القرارات الصادرة عن هيئتها العامة، وعن مجلس الامن فيها، وكلها ينصر اسرائيل على العرب ومن معهم… أولها وأخطرها قرار الاعتراف بالكيان الصهيوني في مجلس الامن، وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي حظيت بمثل هذا الشرف: أن يعلن الكون (في ما عدا العرب) قيام دولة عادية، مستوردة “شعوبها” من سائر اقطار الدنيا ـ الغرب أساساً ـ، معظمهم لم يكونوا يعرفون أين تقع في الجغرافيا، وأين موقعها في التاريخ، وما هو ماضي هؤلاء الأقوام الآتين من مختلف أرجاء الأرض إلى أسطورة توراتية جعلتها المطامع الاستعمارية (المجددة) في أرض العرب دولة مستولدة وطارئة أقوى من مجموع دولهم؟!
لم تقم إسرائيل بالاستجداء والتوسل والوقوف على أبواب الدول تستنخي شهامتهم ونصرتها على من سوف تستولي على أراضيهم بالقوة وبشراء ملوكهم والامراء (كالأمير عبد الله، ابن الشريف حسين) وضباط الجيوش التي لم تكن جاهزة للقتال (كالماريشال حسني الزعيم في سوريا)، أو أمراء الجيوش التي كان سلاحها يقتل حامليها من الجنود (كما الجيش المصري في حرب 1948)..
قامت اسرائيل بالتخطيط طويل الأمد وتقديم خدمات رجالاتها، وهم بعض أثرى أثرياء العالم، لمن يساعدها على تحقيق حلم العودة إلى أرض الميعاد، التي لم تكن في أي يوم دولة ليهود العالم.
قامت بالإعداد والاستعداد الهادئ والمتواصل وشراء السلاطين والحكام، مسلمين بالأساس ـ كما السلطان العثماني وبابه العالي ـ، وتدريب المقاتلين في جيوش الحلفاء، وشراء ما تيسر من اراضي غير الفلسطينيين في فلسطين (وفيهم باشوات من مصر وبكوات من لبنان وسوريا الخ..) وكذلك من بعض وجهاء فلسطين ذاتها، ممن لم يكن في بالهم أن خلف هذه الصفقات مشروعاً استعمارياً سيغير خريطة المنطقة، وسيشرد شعباً بكامله ليقيم على أنقاض بيوته العريقة وكنائسه ومساجده وهي شهادة التاريخ وبناته دولة عادية تستقوي على أهله الذين كانوا على الدوام أهله.
ماذا يعرف هؤلاء المندوبون ممثلو الدول الذين “منحوا” بأصواتهم القدس لكيان استعماري أقيم بقوة القهر والتواطؤ والخيانة على أرض فلسطين وعلى حساب أهلها الذين كانوا على الدوام أهلها فيها؟
المخزي أن يهلل بعض أهل السلطة في دنيا العرب لهذا “الانتصار” الذي يعادل استكمال الهزيمة، والتي ردت عليه بعض الدول التي كانت صديقة للعرب (مثل دول في أميركا اللاتينية) فقررت ست منها نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس، في تحد مكشوف للعرب والأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها.. وقد تباهى نتنياهو باستقبال وزير خارجية واحدة من تلك الدول وجلس معه إلى طاولة يوقعان مزيداً من الاتفاقات!
كيف لدول عربية هائلة الغنى أن تودع أرصدتها الفلكية في البنوك الأميركية، وأن تشتري كميات مهولة من سندات الخزينة الأميركية، أن تتخذ قراراً بإذلال ذاتها (وأمتها) وإهانة شعوبها بتاريخهم المجيد، ثم تتسول موقفا من قضيتهم المقدسة فيجيئهم التصدي لحقهم قيها، ثم يتبعه الرئيس الأميركي بالتحدي، وهو واثق كل الثقة أن أحدا من هؤلاء الملوك الذين يتلفعون العباءات المقصبة والرؤساء ذوي الالقاب المفخمة لن يجرؤ على “معاتبته”، فكيف بمحاسبته، وهو قد عاد من لدى “كبيرهم” قبل أسابيع بمئات المليارات من الدولارات، عدا الهدايا الثمينة التي قدمت بأريحية نادرة للسيدة عقيلة الرئيس وللسيدة كريمته وزوجها الصهر المبجل؟!
وكيف لإسرائيل أن تتوقف عن مصادرة الأراضي الفلسطينية (التي يفترض نظرياً أنها “من حق” السلطة التي لا سلطة لها) طالما أن ليس ثمة من يحاسبها على اعتداءاتها اليومية، بالحديد والنار على الشبان والصبايا الذين لا يملكون غير أصواتهم وقبضاتهم الصغيرة يرفعونها في وجوه جنود الاحتلال وهم يوجهون إليهم البنادق والرشاشات ويطلقون عليهم الرصاص فيقتلون ويجرحون من شاءوا ولا من يحاسب أو يعاقب؟!
لقد “أسكرت” الدول العربية ذات العروش والثروات الطائلة بالنصر المعنوي الذي تحقق عبر تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة برفض القرار الإسرائيلي باتخاذ القدس عاصمة لها..
لكن “السكرة” طارت بعد دقائق ومضى الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ مخططه بينما ملوك العرب والرؤساء والأمراء مشغولون في قضايا مصيرية أخطر وأجدى مثل تحرير اليمن من شعبها والانشغال عن “داعش” في العراق وعصاباته تدمر مدن الحضارة فيه، وعن “داعش” وشقيقاتها مثل “النصرة” و”أحرار الشام” وهي تقتل عواصم المجد الذي كان والذي بات عبئاً ثقيلاً على أكتاف حكام هذا الزمان، يفضل أن يتخلصوا منه حتى لا يظل يذكرهم بصغارتهم!
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/12/31