التعامل مع الاختلاف طفل الإسبرجر
هالة القحطاني
التأهيل والتدريب، الذي ارتبط بأطفال داون والتوحد والإسبرجر وغيرهم من الأشخاص المختلفين، أحادي الأهداف وضعيف، لاعتماده على تدريب المختلفين وأسرهم، بينما من يحتاج للتدريب، دائرة أكبر بكثير
كان الجو رائعا ذلك اليوم، ولكن زميلتي في العمل لم تكن كذلك، كانت تبكي، فاصطحبتها إلى خارج المبنى في الهواء العليل، وجلست بجوارها، وحين هدأت قالت: «ابني لديه متلازمة الإسبرجر، هذا ليس مرضا، بل قصور
في أداء بعض المهارات الاجتماعية والشخصية، ثم استرسلت..» حين بلغ السنة والنصف، لاحظت أنه لا يتكلم كثيرا، ليس لأنه لا يعرف كيف يتكلم، بل لأنه لا يرغب في الحديث مع الغرباء، ولكن كان يتجاوب معي كثيرا. وحين وصل لسن الروضة رفض التجاوب مع المعلمة في اليوم الأول، مع أنه كان يعرف أسماء الألوان، والأحرف والحيوانات باللغتين. فأدركت أنه مختلف، ولكن لم أعرف حجم هذا الاختلاف.
حين وصل للصف الثاني الابتدائي وصلتني شكوى من معلمته بأنه فوضوي ومهمل، لأنه ألقى حقيبته في منتصف الصف، وجلس في مقعده، وحين رفعت المعلمة الحقيبة، تسأل لمن، لم يتجاوب أبداً، بل أبدى استغرابه، حين فتحتها وقرأت اسمه. من ذلك اليوم بدأ كل شيء، بدأت رحلة البحث عن ذلك الشيء، الذي أستطيع أن أشعر به، ولا أعرف ما هو. الشيء الذي يجعل ولدي لا يأكل إلا طعاما محددا، ولا يخلد للنوم في المساء إلا بصعوبة، ويشعر بالألم عند تمشيط شعره، ولا يعرف كيف يقلم أظافره، أو يفرك نفسه حين يستحم، ليس لأنه لا يحب النظافة، بل لأن أي شيء يلامس جسده يؤلمه.
تم تشخيصه بـ«متلازمة الإسبرجر»، أحد أطياف التوحد ذي الأداء الوظيفي العالي، التي تصيب 1 من كل 250 طفلا، والذكور أكثر من الإناث بنسبة تتراوح بين 9 و2. لم أرضخ سريعا لما قاله الطبيب، فأي صدفة تلك التي ستجعل من ولدي ذلك الواحد من الـ250، أجريت الكثير من البحوث، إلى أن اكتشفت أن الأمر حقيقة، حيث يشترك أغلب المصابين في سمات معينة، أهمها القصور في القدرة على التواصل الاجتماعي، واستخدام لغة حوار يفهمها الأشخاص العاديون، فلا يستطيع أن يفهم الإيحاءات أو التلميحات التي لها دلالة اجتماعية، بل كل شيء ينبغي أن يكون مباشرا وواضحا، كان يصعب عليه في البداية تكوين صداقات لفترة طويلة، ومع ذلك تمكنت من معرفة أسماء زملائه، وصنعت له محيطا اجتماعيا، وقويت صداقاته، دون أن يشعر بذلك. ولأن المتعارف على طفل الإسبرجر، عدم النظر في عين من يتحدث معه، كان علي أن أدربه أن ينظر في عين أبيه، وعين معلميه، وزملائه، لأنه في الواقع كان ينظر في عيني دون تدريب، والأطباء لا يفهمون، بأنه لا يحب أن ينظر إلا في عين من يحب أو من يريد.
تمسكه بالروتين اليومي، وعدم رغبته في تغيير ذلك، دفعني على محاولة كسر هذه النمطية التي تشمل طريقة تفكيره وطعامه وملابسه، فمثلاً ممكن يتحدث بإسهاب كبير جدا، عن آخر المخترعات التقنية دون ملل، ولكن حين
لا يجد قميصا أو حذاء معينين يصاب بأزمة وحيرة، لا يخرج منها بسهولة، وتستطيع منعه من الخروج من البيت. لذلك حين يرتدي ملابسه دون أن أتدخل يخرج بشكل يوحي للآخرين بالغرابة، لأنني أحيانا، أتركه يرتدي ما يريد، لأن ذلك يسعده. فلا يمكن أن أعلن للعالم بأن طفلي لديه إسبرجر، وأشرح لهم سبب الغرابة حول تصرفاته، لأنهم سيتعاملون معه كمريض، دون استيعاب نقاط اختلافه. ويكفي تفاعل المدرسة المحبط، حين تم التعامل مع اختلافه، بوضعه في صف لصعوبات التعلم، في تشخيص خاطئ لحالته، لمجرد أن رفض التجاوب مع المعلم في الصف الرابع، الأمر الذي أغضبه كثيرا، فبدلا من أن تتعامل المدرسة معه، على أساس أنه طفل مختلف، ويثقفوا أنفسهم لمعرفة كيفية التعامل مع طفل الإسبرجر، في المقابل فعلو كل شيء يزعجه، مثل التحدث بصوت مرتفع يصل للصراخ أحيانا، والذي يعد من أكثر الأمور المزعجة التي تضايق طفل الإسبرجر.
توقفت قليلا، لتمسح دموعها، ثم أردفت، «لا يستطيع التكيف مع أي تغيير مفاجئ، لأنه يزيد من حدة توتره ومعاناته النفسية، فحين يدخل المعلم ويعلن امتحانا مفاجئا، يتملكه ارتباك شديد، يمنعه من الإجابة، أو يخرج مبكرا من الامتحان للهروب من مصدر التوتر فيرسب. ومهما كان يعرف من معلومات لا يتفاعل لأن مبدأ المباغتة يوتره للغاية». أخذت نفسا عميقا.. وغادرت بهدوء.
بعد تلك المعاناة نستطيع أن نقول بأن مبدأ التأهيل والتدريب، الذي ارتبط بأطفال داون والتوحد والإسبرجر وغيرهم من الأشخاص المختلفين، مبدأ أحادي الأهداف وضعيف، لاعتماده على تدريب المختلفين وأسرهم فقط، بينما من يحتاج للتدريب، دائرة أكبر بكثير من دائرة الأسرة. فلو شملت التوعية والتدريب كل الجهات التي تحتك بأصحاب متلازمة الإسبرجر من قريب أو بعيد، ستكون حياتهم أسهل. ففي النهاية.. نـحن من يحتاج أن يتعلم، التعامل مع الاختلاف والمختلفين.. وليس هم.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2018/01/14